قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال

قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.

وهي شيئان:

أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر كل الحذر من إهمالها والاسترسال معها. فإنَّ أصلَ الفساد كله من قِبلها يجيء؛ لأنَّها هي بذر الشيطان والنفس في أرض القلبِ، فإذا تمكن بذرُها تعاهدها الشيطان بسقيه مرَّةً بعد أخرى حتَّى تصير إرادات، ثُمَّ يسقيها حتَّى تصير عزائم، ثُمَّ لا يزال بها حتى تثمر الأعمال.

ولا ريبَ أنَّ دفعَ الخواطر أيسرُ من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبدُ نفسه عاجزًا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرِّط إذ لم يدفعها وهي خاطر ضعيف؛ كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطَبٍ يابسٍ، فلمَّا تمكنت منه عجزَ عن إطفائها.

فإن قلتَ: فما الطريقُ إلى حفظ الخواطر؟

قلتُ: أسباب عدَّة:

أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك.

الثاني: حياؤك منه.

الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلقه لمعرفته ومحبته.

الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.

الخامس: إيثارك له أن يساكن قلبك غير محبته.

السادس: خشيتك أن تتولَّد تلك الخواطر، ويستعر شرارُها، فتأكلَ ما في القلب من الإيمان ومحبة اللَّهِ، وتذهب به جملةً، وأنتَ لا تشعر.

السابع: أن تعلم أنَّ تلك الخواطر بمنزلة الحَبِّ الذي يُلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أنَّ كلَّ خاطر منها فهو حبَّة في فخ منصوب لصيدك، وأنت لا تشعر.

الثامن: أن تعلمَ أنَّ تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلًا، بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلبٍ إلا وغلبَ أحدُهما صاحبَه، وأخرجه، واستوطن مكانه.

فما الظن بقلب غلبت خواطرُ النفس والشيطان فيه خواطرَ الإيمان والمحبة والمعرفة فأخرجتها، واستوطنت مكانها؟ لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك، وأحسَّ بمصابه.

التاسع: أن يُعلم أنَّ تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلبُ في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه، فلا يجد إليه سبيلًا. فقلبٌ تملكه الخواطر بعيدٌ من الفلاح، معذَّبٌ، مشغولٌ بما لا يفيد.

العاشر: أنَّ تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامةَ والخزيَ. وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوسَ، وعزلته عن سلطانه، وأفسدت عليه رعيته، وألقته في الأسر الطويل.

كما أنَّ هذا معلومٌ في الخواطرِ النفسانية، فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية، هي أصل الخير كلِّه. فإنَّ أرض القلب متى بُذِرَ فيها خواطرُ الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاءِ الثوابِ، وسُقِيَت مرَّةً بعد مرَّةٍ، وتعاهدها صاحبُها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كلَّ فعل جميل، وملأت قلبَه من الخيرات، واستعملت جوارحَه في الطاعات واستقرَّ بها الملك في سلطانه، واستقامت له رعيته.

ولهذا لما تحقَّقت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، وكان ذلك هو سيرَها وعملها. وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما: أن لا يترك به واجبًا ولا سنَّة، الثاني: أن لا يجعلَ مجرَّد حفظِها هو المقصود. بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطرَ الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر، ويعمره بأضدادها. وإلا فمتى عمل على تفريغه منهما معًا كان خاسرًا، فلا بدَّ من التفطن لهذا.

ومن هنا غلِطَ أقوامٌ من أرباب السلوك، وعملوا على إلقاءِ الخواطرِ وإزالتها جملةً، فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات، فظنّوها تحقيقًا وفتحًا رحمانيًّا، وهم فيها غالطون، وإنَّما هي خيالات وفتوحات شيطانية. والميزان هو الكتاب الناطق، والفطرة السليمة، والعقل المؤيد بنور النبوة، واللَّه المستعان.

‌‌الثاني: صدق التأهب للقاءِ اللَّه عز وجل. وهذا من أنفع ما للعبدِ وأبلغِه في حصول استقامته. فإنَّ من استعدَّ للقاءِ اللَّه انقطعَ قلبه عن الدنيا ومطالبها، وخمدت من نفسه نيرانُ الشهوات، وأخبتَ قلبُه إلى ربِّه تعالى، وعكفت همته على اللَّه وعلى محبته وإيثار مرضاته. واستحدث همَّةً أخرى وعلومًا أخر، وولد ولادةً أخرى تكون نسبةُ قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمِّه، فيولد قلبُه ولادةً حقيقية، كما ولد جسمه حقيقة. وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدارِ. وهذا معنى ما يذكر عن المسيح صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يا بني إسرائيل، إنَّكم لن تلجوا ملكوتَ السماء حتَّى تولدوا مرَّتين".

ولمَّا كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها -فضلًا عن أن يصدقوا بها- فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أم كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همَّة ولا عزيمة، إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدّقه؟ ولكن إذا كُشِفَ حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنَّه لم يولد قلبُه بعد.

والمقصود أنَّ صدق التأهّب للقاءِ اللَّهِ هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى اللَّه ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمالِ القلوب والجوارح. فمفتاحُ ذلك كلِّه صدقُ التأهب والاستعداد للقاءِ اللَّهِ، والمفتاح بيد الفتَّاحِ العليم، لا إلهَ غيره، ولا ربَّ سواه.


طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 377 - 382)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله