استحباب العقيقة ومعنى حديث: "كل غلام مرتهن بعقيقته"

الفصل الثالث في أَدلَّةِ الاستحبابِ

فأمَّا أهلُ الحديثِ قاطبةً، وفقهاؤهُم، وجمهورُ أهلِ العِلْمِ، فقالوا: هي من سُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

واحتجُّوا على ذلك بما رواه البُخَاريّ في "صحيحه" عن سَلْمانَ بنِ عامر الضَّبّيِّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مع الغُلامِ عَقِيقَتُهُ، فأهْرِيقُوا عنهُ دَمًا، وأَمِيطُوا عنهُ الأذَى".

وعن سَمُرَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ غلامٍ رهينةٌ بعَقِيقَتِه، تُذبح عنه يومَ سَابعهِ، ويُسَمَّى فيه، ويُحْلَقُ رأسُهُ" رواه أهلُ السُّنَنِ كلُّهم، وقال التّرْمِذِيّ: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتانِ، وعنِ الجَارِية شاةٌ" رواه الإمام أَحمد والتّرْمِذِيُّ وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".

وفي لفظ: أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نَعُقَّ عن الجَارِيَة شاةً وعن الغُلام شاتين. رواه الإمام أَحْمَد في "مسنده".

وعن أمِّ كُرْزٍ الكَعْبِيَّةِ أنها سألتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن العَقيقةِ فقال: "عن الغُلام شَاتَانِ وعن الأنثى واحدةٌ، ولا يَضرُّكم ذُكْرَانًا كُنَّ أو إناثًا". رواه الإمام أَحمد والتّرمذِيّ وقال: "هذا حديث صحيح".

وقال الضّحَّاك بنُ مَخْلَد: أخبرنا أبوحَفْصٍ سالمُ بنُ تميمٍ، عن أبيه، عن عبدِ الرَّحمن الأعْرَجِ، عن أبي هُرَيرَة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اليَهودَ تَعُقُّ عن الغُلامِ ولا تَعُقُّ عن الجَارِيَة، فَعقُّوا عن الغُلامِ شاتَيْنِ وعنِ الجَاريَة شاةً". ذكره البيهقِيُّ.

وعن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحَسَنِ والحُسَيْنِ كَبْشًا كبشًا. رواه أبو داود والنَّسائيّ. ولفظ النَّسائيّ: "بكبشينِ كبشينِ".

وعن عَمْرو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَر بتسميةِ المولودِ يومَ سابعِهِ ووضْعِ الأذى عنه والعقِّ. قال التّرْمِذِيّ: "هذا حديث حسن غريب".

وعن بُرَيْدَةَ الأسْلَمِىّ قال: كنَّا في الجاهليَّة، إذا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غلامٌ ذَبحَ شاةً ولَطَّخَ رأسَه بِدَمِهَا، فلمَّا جاء الله بالإسلامِ كنَّا نذبحُ شاةً، ونَحْلقُ رأسَهُ، ونلطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ. رواه أبو داود.

وروى ابن المنذر من حديث يحيى بن يحيى، أنبأنا هُشَيم، عن عُيَينةَ بنِ عبد الرَّحمن، عن أبيه، أنَّ أبا بَكْرَةَ وُلِد له ابنهُ عبدُ الرَّحمن، وكان أوَّلَ مولود وُلِدَ بالبصرة، فَنحَرَ عنه جَزُورًا، فأطعمَ أهلَ البصرةِ. وأنكر بعضُهم ذلك، وقال: أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشَاتَين عن الغُلام وعن الجَارِيَة بشاة.

وعن الحَسَنِ عن سَمُرَة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في العَقِيقَة: "كلُّ غلامٍ مُرْتَهَنٌ بعَقيقتهِ، تُذبَحُ عنه يومَ سابعِه، ويُحْلَقُ، ويُدَمَّى".

قال أبو داود: فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع به؟ قال: إذا ذُبِحَتِ العَقِيقَةُ، أُخذت منها صوفةٌ، واستُقْبِلَتْ بها أوْداجُهَا، ثم تُوضَع على يَافُوخِ الصبيَّ حتى يسيلَ على رأسه مِثل الخيط، ثم يُغسل رأسُه ويُحلَقُ.

قال أبو داود: وهذا وهمٌ من هَمَّام بن يحيى ـ يعني "ويُدَمَّى" ـ ثم ساقه من طريق أخرى، قال: "كلُّ غلامٍ رهينةٌ بعقيقتِهِ، تُذبَح عنه يومَ سابعِهِ ويحلق رأسه ويُسَمَّى".

قال أبو داود: "ويسمَّى" أصحُّ.

وأخرجه التّرْمِذِيّ والنَّسائيّ وابنُ ماجه، وقال التّرْمذيّ: "حديث حسن صحيح".

وهذا الحديث قد سَمِعَهُ الحَسَنُ من سَمُرَةَ، فذكر البُخَاريّ في "صحيحه" عن حبيب بن الشهيد، قال: قال لي ابنُ سيرين: سَلِ الحَسَنَ: ممّن سمع حديث العَقيقةِ؟ فسألته، فقال: من سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ.

وقد ذكر البَيهقيّ عن سليمان بن شُرَحْبِيل: حدّثنا يحيى بن حَمْزَة قال: قلت لعطاء الخُرَاسَانيّ: ما "مُرْتَهنٌ بعقيقته؟ " قال: يُحرم شفاعة ولده.

وقال إسْحَاق بنُ هَانِئ: سألتُ أبا عبدِ الله عن حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الغُلامُ مُرْتَهنٌ بعَقيقتِه" ما مَعْناهُ؟

قال: نعم، سُنَّةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُعَقَّ عن الغُلام شَاتانِ وعن الجَارِيَةِ شاةٌ، فإذا لم يُعَقَّ عنه فهو محتَبَسٌ بعقيقتِه، حتى يُعَقَّ عنه.

وقال الأَثْرَمُ: قال أبو عبدِ اللهِ: ما في هذه الأحاديثِ أَوْكَدُ من هذا- يعني في العَقِيقَة "كلُّ غلامٍ مُرْتَهنٌ بعقيقتِه"-.

وقال يَعقوب بن بُخْتَان: سُئل أبو عبد الله عن العَقِيقَةِ، فقال: ما أَعْلمُ فيه شيئًا أشدَّ من هذا الحديث: "الغُلامُ مرتهنٌ بعقيقتهِ".

وقال حَنْبَل: قال أبو عبد الله: ولا أحبُّ لمن أمْكَنهُ وقَدَرَ: أنْ لا يَعُقَّ عن ولده، ولا يَدَعَهُ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الغُلامُ مُرْتَهنٌ بعَقِيقَتهِ"، وهو أشدُّ ما روي فيه، وإنما كره النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك الاسمَ، وأما الذَّبْحُ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد فعلَ ذلك.

وقال أَحْمَدُ بنُ القاسمِ: قيل لأبي عبد الله: العَقِيقَةُ واجبةٌ هي؟ فقال: أمَّا واجبةٌ فلا أدري، لا أقولُ: واجبةٌ. ثم قال: أشدُّ شيءٍ فيه أنَّ الرجلَ مُرتهنٌ بعقيقتهِ.

وقد قال أَحْمَد في موضعٍ آخرَ: مرتهنٌ عن الشفاعة لِوَالِدَيْهِ.


تحفة المودود بأحكام المولود (ص49 – 55 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله