كتاب الخليفة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري
(تهذيب لما أورده ابن القيم لكتاب عمر في القضاء)
د. معزز اسكندر الحديثي
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة السلام على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصَحبه أجمعين.
كتَب سيدنا الخليفة العادل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى عامله على البصرة أبي موسى الأشعري[1] - رضي الله عنه - كتابًا في القضاء، تضمَّن فصولاً مهمَّة يَستند عليها القضاء الإسلامي، إنها بحقٍّ وثيقة مهمَّة من وثائق القضاء، تُوضِّح لنا مدى الرُّقي الحضاري والعدل والمساواة، الذي بلَغته الدولة الإسلاميَّة في العصر الراشدي.
وقد هَذَّبت واخْتَصَرت ما أورَده العلاَّمة ابن قَيِّم الجوزيَّة حول هذا الكتاب، والذي تناوَله في "إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين"، وبيَّنت فيه أهمَّ القواعد والأُسس التي ذكَرها الخليفة، وطلَب من أبي موسى أن تكون نُصب عينيه عند الفصل بين المتنازعين.
نصُّ الكتاب:
"حدَّثنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد النعماني، نا عبدالله بن عبدالصمد بن أبي خدَّاش، نا عيسى بن يونس، نا عبيدالله بن أبي حميد عن أبي المليح الهذلي، قال: كتَب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري:
أمَّا بعدُ:
فإنَّ القضاء فريضة مُحكمة، وسُنة مُتَّبعة، فافْهَم إذا أُدلِي إليك بحجَّة، وانْفُذِ الحقَّ إذا وَضَح، فإنه لا يَنفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذَ له، وآسٍبين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يَيْئَس الضعيف من عدلك، ولا يَطمع الشريف في حَيْفك.
البيِّنة على مَن ادَّعى، واليمين على مَن أنكَر، والصُّلح جائزٌ بين المسلمين، إلاَّ صلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً.
ولا يَمنعنَّك قضاءٌ قضيتَه بالأمس - راجَعت فيه نفسَك، وهُدِيتَ فيه لرُشدك - أن تُراجعَ الحقَّ، فإن الحقَّ قديمٌ، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.
الفَهمَ الفَهمَ فيما يَخْتلج في صَدرك مما لَم يَبلغك في الكتاب أو السُّنة، اعْرِف الأمثال والأشباه، ثم قِس الأمور عند ذلك، فاعْمد إلى أحبِّها عند الله وأشبهها بالحقِّ فيما ترى، واجْعَل - لِمَن ادَّعى بيِّنة - أمدًا ينتهي إليه، فإنْ أحضَر بيِّنة، أخذ بحقِّه، وإلاَّ وجَّهت القضاء عليه، فإن ذلك أجْلَى للعَمى، وأبلغ في العُذر.
المسلمون عدولٌ، بعضُهم على بعض، إلاَّ مجلودًا في حَدٍّ، أو مُجَرَّبًا في شهادة زورٍ، أو ظنينًا في ولاءٍ أو قرابة.
إنَّ الله تولَّى منكم السرائرَ، ودرَأ عنكم بالبيِّنات والأَيمان، وإيَّاك والغضبَ والقلقَ، والضَّجر والتأذِّي بالناس، والتنكُّر للخصوم في مواطن الحقِّ، التي يُوجِب الله بها الأجر، ويُحسن بها الذُّخر، فإنه مَن يُصلح نيَّته فيما بينه وبين الله - ولو على نفسه - يَكْفه الله ما بينه وبين الناس، فما ظنُّك بثوابٍ عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام"[2].
أقوال العلماء في الكتاب:
قال أبو إسحاق الشيرازي[3]: "فنَتبيَّن في هذا الكتاب من آداب القضاء وصفة الحُكم، وكيفيَّة الاجتهاد واستنباط القياس - ما يَعجِز منه كلُّ واحدٍ، ولولا خوف الإطالة لذَكرَت من فقهه في فتاويه، ما يتحيَّر فيه كلُّ فاضلٍ، ويتعجَّب من حُسنه كلُّ عاقلٍ".
وروى الشيرازي[4] أنَّ الشعبي قال: "مَن سرَّه أن يأخذَ بالوثيقة في القضاء، فليَأخذ بقضاء عمر"، وقال ابن قَيِّم الجوزيَّة[5]: "هذا كتاب جليل، تلقَّاه العلماء بالقَبول، وبَنَوا عليه أصولَ الحُكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوجُ شيء إليه، وإلى تأمُّله، والتفقُّه فيه".
وقال الصنعاني[6]: "ومن أحسن ما يَعرفه القُضاة كتابُ عمر - رضي الله عنه - الذي كتَبه إلى أبي موسى، الذي رواه أحمد، والدارقطني، والبيهقي، قال الشيخ إسحاق: هو أجَلُّ كتابٍ، فإنه بيَّن آداب القُضاة وصفة الحُكم، وكيفيَّة الاجتهاد، واستنباط القياس".
أولاً: القضاء فريضة مُحكمة:
قوله: "القضاء فريضة مُحكمة وسُنة مُتَّبَعة":
أرادَ سيدنا عمر - رضي الله عنه - بقوله: القضاء فريضة مُحكمة وسنة مُتَّبعة، أن الأحكام التي يَقضي بها القاضي نوعان:
الأول: أحكام فرَضها الله في كتابه الكريم، وعليه فلا يجوز للقاضي أن يَقضي بخلافها؛ إذ هي مُحكمة غير منسوخة.
الثاني: أحكام سنَّها النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى القاضي أن يَلتزم بها، وهذان النوعان من الأحكام ورَدا في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((العلم ثلاثة، فما سوى ذلك فهو فضلٌ: آية مُحكمة، وسُنَّة قائمة، وفريضة عادلة))[7].
ثانيًا: الفَهم الصحيح:
وقوله: "فافْهَم إذا أُدلِي إليك":
إنَّ صحة الفَهم وحُسن القَصد، من أعظم نِعم الله التي أنَعَم بها على عباده، فبصحَّة الفَهم يَأْمَن العبد طريقَ المغضوب عليهم، الذين فسَد قصدُهم، وطريق الضالين الذين فَسَد فَهمُهم، ويُصبح من أهل الصراط المستقيم الذي أمرَنا الله أن نسألَه في كلِّ صلاة أن يَهديَنا صراطَهم، وصحَّة الفَهم نور يَقذفه الله في قلب العبد، يَمِيز به الصحيح من الفاسد، والحقَّ من الباطل، والهدى من الضلال، والغي من الرشد.
ولا يتمكَّن القاضي من الحُكم بالحقِّ، إلاَّ بنوعين من الفَهم:
أحدهما: فَهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط عِلم حقيقة ما وقَع بالقرائن والأَمَارات والعلامات؛ حتى يُحيط به علمًا.
ثانيهما: فَهْم الواجب في الواقع، وهو فَهْم حُكم الله الذي حكَم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يُطَبِّق أحدهما على الآخر، فمَن بذَل جُهده وطاقته، واستَفْرَغ وُسْعه في ذلك، فله أجران إن أصابَ، وله أجرٌ إن أخطَأ، فالعالم مَن يتوصَّل بمعرفة الواقع والتفقُّه فيه إلى معرفة حُكم الله ورسوله، كما توصَّل شاهدُ نبيِّ الله يوسف - عليه السلام - بشَقِّ قميصه من دُبرٍ؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28].
وكما توصَّل نبيُّ الله سليمان - عليه السلام - إلى معرفة الأم الحقيقيَّة للولد عندما قال: ائتُوني بالسكين؛ حتى أَشقَّ الولد بينكما[8]، وكما توصَّل سيدنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله للمرأة التي حَمَلت كتابَ حاطب بن أبي بلتعة - لَمَّا أنْكَرَته - إذ قال لها: لتُخْرِجنَّ الكتاب، أو لنُجَرِّدَنَّك من ثيابك إلى استخراج الكتاب منها.
ثالثًا: تنفيذ الحق:
قوله: "فإنه لا ينفع تكلُّم بحقٍّ لا نفاذَ له":
المقصود من قول سيدنا عمر - رضي الله عنه - هو الحثُّ على تنفيذ الحق إذا فَهِمه القاضي؛ إذ لَم ينفع تَكلُّمه به إن لَم يكن له قوة تنفيذيَّة، فهو تحريضٌ منه على العلم بالحقِّ والقوة على تنفيذه؛ قال ابن قيِّم الجوزية[9]: "ولاية الحقِّ نفوذه، فإذا لَم يَنفذ، كان ذلك عزلاً عن ولايته، فهو بمنزلة الوالي العدل، الذي في توليته مصالِحُ العباد في معاشهم ومعادهم، فإذا عُزِل عن ولايته، لَم يَنفع"؛ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45].
قال ابن كثير[10]: "الأيدي: أُولي القوة في طاعة الله، والأبصار: البصائر في الحقِّ، ويعني بذلك: العلم النافع، والعمل الصالح، والقوة في العبادة، والبصيرة النافذة".
رابعًا: العدل في مجلس القضاء:
قوله: " وآسٍ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يَطمع شريف في حَيْفك، ولا يَيْئَس ضعيفٌ من عدلك":
إذا خَصَّ القاضي أحدَ المتخاصمين بالدخول عليه، أو القيام له، أو بصدر المجلس والإقبال عليه، والبشاشة له، والنظر إليه - كان ذلك عنوانَ حَيْفه وظُلمه للخَصم الآخر، حتى إنه إذا سَمَح بالكلام لأحدهما أكثر من الآخر كان قاضيًا ظالِمًا، فالناس سواسية؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الناس كأسنان المشط))[11]، ولا فَضْلَ لأحدٍ على أحد أمام القضاء، فكلُّ واحدٍ له الحقُّ في أن يُدلي بحجَّته؛ حتى يتبيَّن لِمَن الحقُّ.
خامسًا: البيِّنة على مَن ادَّعى:
قوله: "البيِّنة على مَن ادَّعى، واليمين على مَن أنكَر":
البيِّنة في اللغة: من البيان، وهو ما يُبَيَّن به الشيء من الدَّلالة وغيرها، وبانَ الشيء بيانًا: اتَّضَح، فهو بَيِّن، وفي المثَل: "قد بيَّن الصُّبح لذي عينين؛ أي: تَبيَّن"[12].
وفي الاصطلاح: البيِّنة - في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة - اسمٌ لكلِّ ما يُبَيِّن الحقَّ، فهي أعمُّ من البيِّنة في اصطلاح الفقهاء؛ حيث خصُّوها بالشاهِدَين، أو الشاهد واليمين، ولا حَجْر في الاصطلاح ما لَم يتضمَّن حَمْلَ كلام الله ورسوله عليه بذلك الغلط في فَهْم النصوص، وحَمْلها على غير مراد المتكلِّم منها[13]، والمقصود أن القاضي يَقضي بالحُجَّة التي تُرَجِّح الحقَّ إذا لَم يُعارضها مثلُها، والمطلوب منه ومن كلِّ مَن يحكم بين اثنين، أن يَعلم ما يقع، ثم يَحكم فيه بما يجب، فالأول مداره الصِّدق، والثاني مداره العدل؛ قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعى ناس دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المُدَّعى عليه))[14].
والحديث دالٌّ دلالة واضحة على ضرورة اليمين على المُدَّعى عليه، عند تعذُّر تقديم البيِّنة من المُدَّعي؛ حتى لا تَكثر ادِّعاءات الناس بعضهم على بعض.
سادسًا: الصُّلح بين المسلمين:
وقوله: "والصلح جائز بين المسلمين، إلاَّ صُلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً":
روى عمرو بن عوف المزني أنَّ رسول الله قال: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرَّم حلالاً، أو أحلَّ حرامًا))[15].
ومَقولة سيدنا عمر - رضي الله عنه - هي نصٌّ حرفي لحديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أراد أن يَجعلها في موضع التطبيق العملي بين القُضاة؛ حتى يُعمَل بها، وقد ندَب الله إلى الصلح بين المسلمين في كلِّ الأمور، ومنها الدماء، فقال - عزَّ مِن قائل -: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9].
وندَب كذلك الزوجين إلى الصُّلح عند التنازُع في حقوقهما، فقال تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128]. وقال تعالى أيضًا: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
ورُوِي أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - قال: "رُدُّوا الخصوم حتى يَصطلحوا، فإنَّ فصل القضاء يُحدث بين القوم الضغائنَ"[16].
والحقوق نوعان: حقُّ الله، وحقُّ البشر، فحقُّ الله لا مدخل للصُّلح فيه؛ كالحدود، والكفَّارات، ونحوهما، وإنما الصلح بين العبد وبين ربِّه في إقامتها، لا في إهمالها؛ ولذلك لا شفاعة في حدٍّ من حدود الله، وأمَّا حقوق البشر، فهي التي تَقبل الصلح والإسقاط، والصلح العادل هو الذي أمَر به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما قال: ((﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ﴾ [الحجرات: 9]))[17].
سابعًا: إمهال المُدَّعي:
قوله: "واجْعَل - لِمَن ادَّعى بيِّنة - أمدًا ينتهي إليه":
أحيانًا تكون حُجَّة المدَّعي أو بيِّنته غائبة، ويتطلَّب المُدَّعي وقتًا مُعيَّنًا لإحضارها، فإذا سأل المُدَّعي القاضي أمدًا لذلك، ولَم يَمنحه القاضي الوقتَ اللازم لذلك، وعَجِل بالحُكم، بطل حَقُّه، وكان ظُلمًا له وجَوْرًا، ولكن إذا ظهَر للقاضي عناده ومُدافعته، لَم يَضرب له أمدًا، بل يَقضي بما يراه مناسبًا.
ثامنًا: مراجعة القضاء:
قوله: "ولا يَمنعنَّك قضاءٌ قضيتَه بالأمس - راجَعت فيه نفسَك وهُدِيتَ فيه لرُشدك - أن تراجعَ الحقَّ، فإن الحقَّ قديمٌ، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل".
يَقصد أن القاضي إذا قضى بحكمٍ في واقعة معيَّنة، ثم وقَعت له هذه الواقعة مرة أخرى، فلا يَمنعك الاجتهاد الأوَّل من إعادته، فإنَّ الاجتهاد قد يتغيَّر، ولا يكون الاجتهاد الأوَّل مانعًا من العمل بالثاني، إذا ظهَر أنه الحق، فإن الحقَّ أَوْلَى بالإيثار؛ لأنه قديمٌ سابقٌ على الباطل، وأنَّ الرجوع إلى الحقِّ أَوْلَى من التمادي في الباطل.
قضى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - في امرأة تُوفِّيت وترَكت زوجها وأمَّها، وأَخَوَيها لأبيها وأُمِّها، وأَخَوَيها لأُمِّها، فأشرَك عمر بين الإخوة للأمِّ والأب والإخوة في الثُّلُث، فقال له رجل: إنَّك لَم تُشرك بينهم عامَ كذا وكذا، قال عمر: تلك ما قضَينا يومئذٍ، وهذه ما قضَينا اليوم، فأخَذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهَر له أنه الحقُّ، ولَم يَمنعه القضاء الأوَّل من الرجوع إلى الثاني، ولَم يَنقضِ الأول بالثاني.
تاسعًا: المسلمون عدول:
قوله: "المسلمون عدولٌ، بعضُهم على بعض، إلا مَجلودًا في حَدٍّ، أو مُجَرَّبًا في شهادة زورٍ، أو ظنينًا في ولاءٍ أو قرابة".
جعَل الله - سبحانه وتعالى - هذه الأمة أُمَّة وسطًا؛ ليكونوا شهداءَ على الناس؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
والوسط العدل؛ أي: إنهم عدولٌ بعضهم على بعض، إلا مَن قام عليه مانعُ الشهادة؛ كمَن جُرِّب عليه شهادةُ زورٍ، فلا يُوثَق بعد ذلك بشهادته، أو قام المجلود في حدٍّ من حدود الله؛ لأن الله نهى عن قَبول شهادة المحدود؛ ﴿ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4].
عاشرًا: الإخلاص في النيَّة:
قوله: " إنَّ الله تولَّى منكم السرائر، ودرَأ عنكم بالبيِّنات والأَيمان".
يقصد أن مَن ظهَرت منه علانية خيرٍ، قَبِلنا شهادته، ووَكلنا سريرتَه إلى الله، فإنَّ الله لَم يَجعل أحكام الدنيا على السرائر، بل على الظواهر، والسرائر تَبَعٌ لها، وأمَّا أحكام الآخرة، فعلى السرائر، والظواهر تَبَعٌ لها، وستَر عليهم الحدود، والحدود هنا: الذنوب؛ لأنها من الأضداد؛ قال ابن منظور[18]: "الحدود هي محارم الله وعقوباته التي قرَنها بالذنوب"، وهي حدود الله التي نهى عن قُربانها إلاَّ بالبيِّنات، ويَقصد الأدلَّة الشرعيَّة والشواهد، كما في الحمل للمرأة، فهو بيِّنة صادقة لا تَقبل الجَدل، وكذلك رائحة الخمر بيِّنة على شاربها، أمَّا الأيمان، فهي أيمان الزوج في اللعان، وأيمان أولياء القتيل في القَسامة، وهي قائمة مقام البيِّنة.
حادي عشر: حُجيَّة القياس:
وقوله: "الفَهمَ الفَهْمَ فيما يَخْتلج في صَدرك مما لَم يَبلغك في الكتاب أو السُّنة، اعْرِف الأمثال والأشباه، ثم قِس الأمور عند ذلك، فاعْمد إلى أحبِّها عند الله وأشبهها بالحقِّ ".
اعتَمَد أهل القياس على هذا النَّصِّ، واحتجُّوا به، وقالوا: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، ولَم يُنكره أحدٌ من الصحابة، بل كانوا مُتَّفقين على القول بالقياس، وهو أحد أصول الشريعة، ولا يَستغني عنه فقيهٌ.
أرشَد الله عباده إلى القياس في مواضِعَ متعدِّدة من كتابه الكريم، منها قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].
فالأمثال كلها قياسات، يُعْلَم منها حُكم المثل من المُمَثَّل به، فقياس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان، وجَعْل الأولى أصلاً والثانية فرعًا عليها، وقياس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات، وغيرها كثير.
أرادَ سيدنا عمر - رضي الله عنه - من أبي موسى أن يستخدمَ القياس في الحالات التي تستجدُّ عنده، ويَقيس على أمثالها من الحالات التي مرَّت عليه عندما تَشترك في نفس العلَّة.
ثاني عشر: الصبر في مجلس القضاء:
قوله: "وإيَّاك والغضب والقلق، والتأذِّي بالناس والتنكُّر للخصوم في مواطن الحقِّ التي يوجِب الله بها الأجر، ويُحسن بها الذُّخر".
وهذا تحذير للقاضي من الغضَب والقلق والضجر؛ لأن هذه الأمور الثلاثة، تَحول بين القاضي وكمال معرفته بالحقِّ، فالغضب: إيقاف لدَور العقل في التفكير؛ ولهذا نَهى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يقضي القاضي وهو غضبان؛ ففي الحديث الصحيح عن عبدالرحمن بن أبي بَكرة - رضي الله عنه - قال: "سَمِعت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((لا يَقْضِيَنَّ حاكم بين اثنين وهو غضبان))"[19].
لأن الغضَب نوْعٌ من الإغلاق للعقل الذي يُغلق على صاحبه حُسْنَ التفكير والتصوُّر، أمَّا القلق والضَّجر، فهما من مَظانِّ عدم صبر القاضي على الحقِّ؛ لذلك نُهِي عنهما.
وفي النصِّ المتقدِّم تحريضٌ على تنفيذ الحقِّ والصبر عليه، وجَعْل الرضا بتنفيذه في موضع الغضب، والصبر في موضع القلق والضجر، والتحلِّي به واحْتِساب أجْره في موضع التأذي، فإنَّ هذا دواءُ ذلك الداء الذي هو من لَوازم النفس البشرية وضَعفها.
ثالث عشر: التوكُّل على الله:
قوله: "فإنه مَن يُصلح نيَّته فيما بينه وبين الله - ولو على نفسه - يَكْفه الله ما بينه وبين الناس":
قال ابن قيم الجوزيَّة[20]: "هذا شقيق كلام النبوَّة، وهو جدير أن يخرجَ من مشكاة المُحَدِّث المُلهَم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم".
إنَّ العبد إذا أخلَص نيَّته لله تعالى، وكان قصده وهَمُّه وعلمه لوجهه - سبحانه وتعالى - كان الله معه، فإنه - سبحانه - مع الذين اتَّقوا والذين هم محسنون؛ قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
ورأس التقوى والإحسان خُلوص النيَّة لله تعالى في إقامة الحقِّ، والله - سبحانه - لا غالبَ له، فمَن كان معه الله، فمَن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوءٍ، وإن لَم يكن معه، فمَن يرجو؟ وبمَن يَثق؟ ومَن يَنصره من بعد الله؟
فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً، وكان قيامه بالله ولله، لَم يَقم له شيء، ولو كادَته السموات والأرض والجبال، لكفاه الله مُؤْنَتها، وجعَل له فرَجًا ومَخرجًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2].
وقال - عزَّ مِن قائل -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4].
وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره، فمَن كان قيامه في باطلٍ، لَم يُنصَر، وإن نُصِر نصرًا عارضًا، فلا عاقبة له، وهو مذموم مَخذول، وهذه سُنَّة من السُّنن الإلهيَّة، وإن قام في حقٍّ، لكنَّه لَم يقم فيه لله - وإنما قام لطلب الشكر والثناء والجاه من الخَلْق، أو التوصُّل إلى غرَضٍ دنيوي - فهذا لَم تُضمَن له النُّصرة؛ لأنه قام لغير الله، ومَثَلُه كمثل الذي قاتَل لهوًى في نفسه، فإن الله لا يَنصره؛ لأن ضَمانَ النصر لِمَن جاهَد في سبيله، وقَاتَل لتكون كلمة الله هي العليا، وإذا قام العبد في الحقِّ لله، ولكن قام بنفسه وقوَّته، ولَم يَقم مُستعينًا به، متوكِّلاً عليه، ومُفوِّضًا أمرَه إليه، فله من الخِذلان وضَعف النُّصرة بحسب ما قام من ذلك؛ فعن أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن الْتَمَس رضا الله بسَخَط الناس، كفَاه الله مُؤْنة الناس، ومَن الْتَمَس رضا الناس بسَخَط الله، وَكَله الله إلى الناس))[21].
وقول سيدنا عمر - رضي الله عنه - "فمَن خلصتْ نيَّته في الحقِّ ولو على نفسه"، إشارة إلى أنه لا يكفي قيامه في الحقِّ إذا كان على غيره، بل يجب أن يقومَ بالحق على نفسه أولاً؛ حتى يتمكَّن من قيامه على غيره.
وخطَب سيدنا عمر - رضي الله عنه - يومًا وعليه ثوبان، فقال: "ألا تسمعون"، فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: ولِمَ يا أبا عبدالله؟ قال: إنَّك قسمتَ علينا ثوبًا، ثوبًا، وعليك ثوبان، فقال: لا تَعجل يا أبا عبدالله، فلم يُجبه أحدٌ، فقال: يا عبدالله بن عمر، فقال: لبَّيك يا أمير المؤمنين، فقال: نَشَدتُك اللهَ، الثوبُ الذي ائْتَزَرْتَ به، أهو ثوبُك؟ قال: نعم، اللهمَّ نَعم، فقال سلمان: أمَّا الآن، فقل، نَسمع"[22].
رابع عشر: ثواب الله:
قوله: " فما ظنُّك بثوابٍ عند الله في عاجل رِزقه وخزائن رحمته":
تعظيم جزاء المخلص، وأنه رزقٌ عاجل؛ إمَّا للقلب، أو للبدن، أو لهما معًا، ورحمة الله مُدَّخرة له في خزائنه، فإن الله - جل في علاه - يَجزي العبد على ما عَمِل من خيرٍ في الدنيا، ولا بدَّ، ثم يُوَفِّيه أجرَه يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال تعالى: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
[1] هو: عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المُقرئ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجَر ليالي فَتْح خيبر، وغزا وجاهَد مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحمَل منه علمًا كثيرًا، وهو معدود فيمَن قرَأ على النبي الكريم، وقد استعمَله النبي ومعاذًا على زبيد وعدن.
وَلِي إمْرة الكوفة والبصرة لسيدنا عمر بن الخطاب، وكانت ولايته للبصرة سنة سبع عشرة، وافتتَح الأهواز، وأصبهان، وتستر، والرها، وسميساط، وما والاها، وكان صوَّامًا قوَّامًا ربَّانيًّا، زاهدًا عابدًا، ممن جمَع العلم والعمل والجهاد، لَم تُغيِّره الإمارة، ولا اغترَّ بالدنيا، له في الصحيحين تسعة وأربعون حديثًا، توفِّي سنة أربع وأربعين على القول الراجح عند العلماء؛ الذهبي سير أعلام النُّبلاء، (2 /380).
[2] الدارقطني؛ السنن، (4 / 206)، البيهقي؛ السُّنن الكبرى، (10/ 150).
[3] طبقات الفقهاء، (1/20).
[4] المصدر نفسه.
[5] إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين، (1/ 86).
[6] سُبل السلام، (4/ 119).
[7] ابن ماجه؛ السُّنن، (1/ 21)، أبو داود؛ السُّنن، (3/ 119)، الحاكم؛ المُستدرك على الصحيحين، (4/ 369).
[8] ابن قَيِّم الجوزيَّة؛ إعلام الموقعين، (1/ 81).
[9] إعلام الموقعين، (1/ 89).
[10] التفسير، (4/ 40).
[11] الشهاب القضاعي؛ المسند، (1/ 145).
[12] ابن منظور؛ لسان العرب، (13/ 67).
[13] ابن القيِّم؛ إعلام الموقعين، (1/ 90).
[14] مسلم؛ الصحيح، (3/ 1336)، رقْم الحديث (1710)، ابن ماجه؛ السُّنن، (2/ 778).
[15] ابن ماجه؛ السنن، (2/ 788)، الحاكم؛ المستدرك على الصحيحين، (4/ 113).
[16] البيهقي؛ السُّنن الكبرى، (6/ 66).
[17] الحاكم؛ المستدرك على الصحيحين، (2/ 502)، البيهقي؛ السنن الكبرى، (8/ 171).
[18] لسان العرب، (3/ 140).
[19] البخاري؛ الصحيح، (6/ 2616)، رقم الحديث (6739).
[20] إعلام الموقعين، (2/ 178).
[21] الترمذي؛ السنن، (4/ 609).
[22] ابن قيم الجوزية؛ إعلام الموقعين، (2/ 180).
المصدر: شبكة الألوكة