وأمَّا كراهيةُ السلف أن يُتْبَعَ الميِّتُ بشيءٍ من النار، أو أن يُدْخَلَ القبرَ شيءٌ مَسَّته النار، وقولُ عائشة رضي الله عنها: «لا يكونُ آخرُ زاده أن تَتْبعوه بالنار»؛ فيجوزُ أن يكون كراهتُهم لذلك مخافةَ الإحداث لما لم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكيف وذلك مما يُنْتِجُ الطِّيَرة به والظُّنونَ الرديَّة بالميت؟!
وقد قال غيرُ واحدٍ من السلف، منهم عبد الملك بن حبيب وغيره: إنما كرهوا ذلك تفاؤلًا بالنار في هذا المقام أن تَتْبعه.
وذكر ابنُ حبيب وغيره أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على جنازة، فجاءت امرأةٌ ومعها مِجْمَر، فما زال يصيحُ بها حتى توارت بآجام المدينة.
قال بعضُ أهل العلم: وليس خوفُهم من ذلك على الميِّت، لكنْ على الأحياء المجبولين على الطِّيَرة، لئلَّا تحدِّثهم أنفسُهم بالميِّت أنه من أهل النار، لِمَا رأوا من النار التي تَتْبَعُه في أول أيَّامه من الآخرة، ولا سيَّما في مكانٍ يرادُ منهم فيه كثرةُ الاجتهاد للميِّت بالدعاء، فإذا لم يبقَ له زادٌ غيرُه فيظنُّون أنَّ تلك النار من بقايا زاده إلى الآخرة، فتسوءُ ظنونُهم به، وتنفرُ عن رحمته قلوبُهم في مكانٍ هم فيه شهداءُ الله؛ كما جاء في الحديث الصحيح لما مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا، فقال: «وجبَت»، فقالوا: ما وجبَت؟ قال: «وجبَت له الجنة، أنتم شهداءُ الله في الأرض، من أثنيتم عليه خيرًا وجبَت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبَت له النار».
وفي أثرٍ آخر: «إذا أردتم أن تعلموا ما للميت عند الله فانظروا ما يتبعُه من حسن الثناء».
فقالت عائشة رضي الله عنها: لا يكونُ آخرُ زاده من الثَّناء والدعاء أن تَتْبعوه بالنار، فتهيِّجوا بها خواطرَ الناس، وتبعثوا ظنونَهم بالتطيُّر بالنار والعذاب. والله أعلم.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (3/ 1563 - 1565 ط عطاءات العلم)