*محمود داود دسوقي خطابي
الصفحات المضية من ترجمة الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني (661 - 728هـ) رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحْمَده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. أمَّا بعد:
"فهذه صفَحات مُضِيَّة من ترجمة الإمام ابنِ تيميَّة".
حياة هذا الإمام مليئةٌ بالأمور الجليلة القدْر، كثيرة المعارِف، متشعِّبة المسالِك، بحيث يصحُّ أن تُفرَد كل مرحلة من مراحل حياته، أو يفرد كل جانب مِن جوانب شخصيته بمصنَّف مستقل، ودراسة فاحِصة لها، تبحث عن الدُّرِّ المكنون بيْن صدفاتها، لكن هذه إطلالة على بعضها - كما هو دأبُ الباحثين - وسيكون ذلك خلال ما يلي:
اسمه ولقبه وكنيته[1]:
هو الإمام الربَّاني، الفقيه المجتهد، المجدِّد، بحْر العلوم العقلية والنقلية، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدِّين أبي المحاسن عبدالحليم بن الشيخ الإمام مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن أبي محمَّد عبدالله بن أبي القاسم الخَضر بن محمَّد بن تيميَّة بن الخضر بن علي بن عبدالله النميري.
لقبه: لُقِّب بشيخ الإسلام[2]، وبابن تيمية[3]، وغالبًا ما يُجمع بينهما فيقال: شيخ الإسلام ابن تيمية.
كنيته: كني بأبي العباس، مع أنه لم يتزوَّج[4]؛ ذلك أنَّه من السُّنة أن يكنى المسلِم، ولو لم يُولد له، أو كان صغيرًا؛ لحديث عائشة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها -: أنها قالت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، كل نسائك لها كُنية غيري، فقال لها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اكتني بابنِك عبدالله [يعني: ابنَ الزبير] أنت أمُّ عبدالله))[5]، ولقول أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل فرأى ابنًا لأبي طلحةَ، يُقال له: أبو عُمَير، وكان له نُغَير يلعب به، فقال: ((يا أبا عُمير، ما فعَل النُّغَير؟))[6].
ولادته وأسرته ونشأته:
ولادته[7]: وُلِد الإمام ابن تيمية في يوم الاثنين 10 ربيع الأول سنة 661 هـ في حران.
أسرته: وهي أسرةٌ معروفة بالعِلم والصلاح؛ إذ إنَّهم يتوارثون العلم فيما بينهم، وكانت لهم الصَّدارة في المسجد الجامع، ومِن هذه الأسرة الطيبة الإمام مَجْد الدين بن عبدالسلام، وولده الإمام الشيخ عبدالحليم والد الإمام أحمد ابن تيمية، وكانتْ هذه الأسرة تسلك في التدليلِ على المسائل العقدية والفقهية مسلكَ الحنابلة، فشرِب الإمام العلمَ منذ نعومة أظفاره في حجْر أبيه، فكان للعلم تقديرٌ خاص لديه؛ بسبب إجلال أسرته للعلم، وشهرتها به، فدرس علومَ الشريعة المختلفة منذ صِغَره، حيث كان يحضر المحافلَ العامة، فكان يناقش ويردّ ويفتي وهو في ريعان الشباب، حتى إنَّه تولَّى الدرس بعد موت أبيه، وحضَر له كبارُ أئمَّة ذلك العصر، وأُعجِبوا من علمه، وسُرعة استحضاره، مما يشهد ببراعته منذ صِغره.
نشأته: لقد أثَّرتْ فيه بيئتُه أيَّما تأثير؛ ذلك أنَّ البيئةَ المحيطة به بيئةُ عِلمٍ وصلاح، "فنشأ بها أتمَّ إنشاءٍ وأزكاه، وأنبته الله أحسنَ النبات وأوفاه، وكانت مخايلُ النجابة عليه في صِغره لائحة، ودلائلُ العناية فيه واضحة، [وقد أثَّرت فيه هذه النشأة أيَّما تأثير، وجعلتْه منذ] صِغره مستغرقَ الأوقات في الجِد والاجتهاد، فختَم القرآن صغيرًا، ثم اشتغل بحِفظ الحديث و[دراسة] الفِقه والعــربية، حتى برع في ذلك، مع ملازمة مجــالس الذِّكْر وسمــاع الأحاديث والآثار"[8]، فنُموُّه في تلك البيئة جعله من المنهومين بطلب العلم، والناهلين من منابعِ المعرفة بعَينٍ فاحصة متخصصة، ثم ظهر ذلك من خلال كتاباته وتآليفه ومواقفه؛ دفاعًا عن الشريعة الغرَّاءِ بكل ما يستطيع من جهْد، وبكلِّ ما أُوتي من قوة، وهذه ثمراتُ نشأته الأولى، وبيئته وأسرته؛ إذ اكتحلتْ عيناه برؤية كِبار علماء عصره، وشنفتْ أذناه بسماع الحديث والآثار مِن أئمة عصره، فارْتشَف العلم منذ نعومة أظفاره، ممَّا كان له أكبرُ الأثر في تكوين مَلَكته العلمية، والتي أهَّلته للإمامة عبرَ العصور.
شيوخه وتلاميذه:
إنَّ نفْسًا عملاقة كنفْس الإمام ابن تيمية، تُنبئ عن تعدُّد مناهِل المعرفة، وتنوُّع روافد أصول العلم التي تلقَّى ثقافتَه ومعرفته مِن خلالها، وهذا بدوره يؤكِّد أنَّ الإمام ابن تيمية قد تلقى العلم على أيدي كثيرٍ من الشيوخ والشيخات، وتعددُ الشيوخ والشيخات راجعٌ إلى تعدُّد روافده، وتنوع العلوم التي درسَها، والمعارف التي تلقَّاها، واستوعبتْها ذاكرتُه الحديدية، وأدركها بعقله الكبير، وطبيعي أنَّ مَن هذه أحوالُه - إضافة إلى ترجمته الحافِلة بأنواع شتَّى من جهاد وتعليم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولهج بذِكْر الله، وحسن عِشْرة ومعاملة، وزهد في منصب وفي دنيا - أن يكون لـه تلاميذُ يحملون عنه عِلمَه الغزير، وهؤلاء الذين تلقوا عنه، أصبح كلُّ واحد منهم إمامًا.
أما شيوخه: وهم الذين تلقَّى على أيديهم أصولَ العلم والمعرفة منذ صِغره، بل ظلَّ كذلك يستفيد مِن أهل العلم في كِبره من الأئمَّة من شيوخ عصره وشيخاته، "وشيوخه الذين سمع منهم أكثرُ من مائتي شيخ"[9]، كما سمع من أرْبع شيخات[10]، فسمع الحديث من الإمام ابن عبدالدايم[11]، ومن شيوخه والده الإمام شِهاب الدين أبو المحاسن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، ومنهم الإمام عبدالرحمن بن محمَّد بن قدامة[12]، والشيخ علي الصالحي[13] ، والشيخ عفيف الدين عبدالرحمن بن فارس البغدادي[14]، والشيخ المنجا التيوخي[15]، والشيخ محمَّد بن عبدالقوي[16]، والشيخ شرَف الدِّين المقدسي[17]، والشيخ الواسطي[18]، والشيخ محمَّد بن إسماعيل الشيباني[19]، ومن الشيخات فعمَّتُهُ ستُّ الدار[20]، والشيخة أمُّ الخير الدمشقية[21]، والشيخة أمُّ العرب[22]، والشيخة أمُّ أحمد الحرانية[23]، والشيخة أم محمَّد المقدسية[24]، فهؤلاء الشيوخ والشيخات وغيرهم، تلقَّى على أيديهم وتعلَّم، وكان لهم أبرزُ الأثر في عِلمه وسلوكه، ونبوغه وعبقريته وألمعيته.
تلاميذه: إنَّ شخصيةً كشخصية الإمام ابن تيمية لا بدَّ وأن يكون لها آثارٌ بارزة؛ لهذا فقد تأثَّر به وبمنهاجه الكثيرُ، كما لازمه كثيرون، وأصبحوا من خواصِّه، وتتلمذوا على يديه، ونهلوا من مَعِينه الصافي، بحيث أصبح الواحدُ منهم بعد ذلك إمامًا في فنِّه، ومشكاةً يضيء للآخرين بما أُوتي من فَهْم ثاقب، وعلمٍ غزير، ومن هؤلاء التلاميذ: الإمام ابن قيِّم الجوزية، والإمام الذهبي، والإمام ابن كثير، والحافظ البزار، والإمام ابن عبدالهادي[25]، والشيخ الواسطي[26]، والشيخ ابن الوردي[27]، والشيخ ابن رشيق[28]، والإمام ابن مُفلِح[29]، وغيرهم الكثير والكثير، والذين قد حملوا عِلمَه، وسلَكوا منهاجَه في تبليغ الشريعة.
وبالنظر إلى تلاميذ هذا الإمام العملاق، تظهر منزلتُه، ويبين قدرُه، فإذا كان تلاميذه أئمة، ولهم من العلم ما لهم مِن تآليف، وتولٍّ لقضاء أو إصلاح، فكيف يكون قدرُ أستاذهم وشأنه؟!
إنَّه بحر لا ساحلَ له، وموسوعةٌ عِلمية ومكتبية متنقِّلة، مع العلم والعمل، والزهد وترْك المناصب، واللهج بذِكْر الله - عز وجل - والدعوة إلى نُصْرة شرْعه بنفسه ورُوحه وماله كله، وهذا معروفٌ وواضح من أحواله، بما ترجم له مَن رآه، أو رأى مَن رآه، وبما تواترتْ أخباره بيْن ناقليها مِن جميع فئات شعبي دمشق ومصر، وبما ترَك خلفَه من آثار: سواء في تلاميذ، أو كتب، أو إصلاح.
عقيدته ومذهبه:
عقيدته: عقيدة الإمام ابن تيمية التي يعتقِدها هي عقيدة السلف الصالح: أهل السنة والجماعة، المتمثِّلة في القرون الثلاثة الأولى، على ما كان عليه النبيُّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((خير أمَّتي قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[30] ، فلا علاقة لمعتقده بشخصٍ معيَّن، ولا بمذهب معيَّن، لا حنبلي ولا غيره؛ بل بما جاء في كتاب الله - عز جل - وبما ثبَت في صحيح السنة النبوية المطهَّرة، وتفسير لما فيها بما ثبت عن الصحابة الكِرام، وعن تابعيهم بإحسانٍ من تلك القُرون الثلاثة الفاضلة، ومع أنَّ إمامه في الفقه هو الإمام أحمد بن حنبل[31]، فإنَّ الإمام ابن تيمية لم يَدْعُ أحدًا قط إلى الْتزام العقيدة على منهج الحنابلة؛ بل كان يدعو إلى الْتزام معتقد السلف الصالح، وقد أبان ذلك هو بنفسه إذ قال: "أما الاعتقاد، فإنَّه لا يُؤخذ عني ولا عمَّن هو أكبرُ مني؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما أجمع عليه سلفُ الأمَّة، فما كان في القرآن وجَب اعتقادُه، وكذلك ما ثبَت في الأحاديث الصحيحة، مثل صحيحي البخاري ومسلم... وكان يَرِدُ عليَّ مِن مصر وغيرها مَن يسألني عن مسائلَ في الاعتقاد أو غيره، فأُجيبه بالكتاب والسُّنة، وما كان عليه سَلفُ الأمة"[32]، وقد كتَب الإمام ابن تيمية هذه العقيدةَ التي يَدين اللهَ بها حينما طُلِب منه أن يَكتبها، فكتبَها فيما بيْن الظُّهر والعصر[33]، وهذه العقيدة هي:
الإيمانُ بالله وملائكته، وكُتبه ورسله، والبعْث بعد الموت، والإيمان بالقَدر خيره وشرِّه، وإثبات معيَّة الله لخلْقه، وأنها لا تُنافي علوَّه فوقَ عرْشه، ورؤية المؤمنين لربِّهم يومَ القيامة.
ومِن الإيمان بالله تعالى: الإيمانُ بكلِّ الأسماء والصفات الواردة في الكتاب وصحيح السنة، ثم الإيمان بالقُرآن الكريم، وأنَّه كلام الله، منزَّل، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنَّ الله تكلَّم به حقيقة، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله على محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره.
ثم الإيمان باليوم الآخِر، وما يكون فيه من أمورٍ بعد هذه الفِتنة، إمَّا نعيم وإمَّا عذاب، إلى أن تقومَ القيامة الكبرى، فتُعاد الأرواح إلى الأجساد، ثم تقوم القيامة، فيقوم الناس مِن قبورهم لربِّ العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويُلجمهم العرق، وتُنصب الموازين، فتوزَن بها أعمالُ العباد، وتنشَر الدواوين، ثم الإيمان بالحِساب.
والإيمان بحوْض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي من شرِب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا، والإيمان بالصِّراط، وهو منصوبٌ على متْن جهنم: وهو الجِسر الذي بين الجَنَّة والنار، يمرُّ الناس على قدْر أعمالهم، فمَن مرَّ على الصِّراط، دخَل الجنة، فإذا عبَرُوا عليه وقفوا على قنطرة بيْن الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم مِن بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجَنَّة، وأوَّل مَن يَستفتح بابَ الجنة محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأوَّل مَن يدخل الجنة مِن الأمم أمَّتُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القيامة ثلاثُ شفاعات:
الأولى: يشفع في أهْل الموقف حتى يُقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياءُ عنها؛ آدم فمَن بعده، حتى تنتهي إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثانية: يشفع في أهل الجَنَّة أن يدخلوها.
الثالثة: يشفع فيمَن استحقَّ النار، وهذه الشفاعة لـه ولسائرِ النبيِّين والصِّدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمَن استحق النار ألاَّ يدخلها، ويشفع فيمَن دخلها أن يخرج منها.
كما يعتقد أنَّ الإيمان قولٌ وعمل، يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو متَّبع لمعتقد أهل السُّنة والجماعة؛ الفرْقة الناجية، في عدم تكفير أهْل القِبلة بمُطلق المعاصي والكبائر؛ بل الأُخوَّة الإيمانية ثابتةٌ مع المعاصي.
ومما يعتقده: وجوب سلامة القلْب واللِّسان لأصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتولَّى آل بيت رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحبُّهم، كما يتولَّى أزواج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمهات المؤمنين، وأنهنَّ أزواجه في الدنيا وفي الآخرة، كما أنَّه يُمسك عما شجَر بين الصحابة - رضي الله عنهم - لأنَّ الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زِيدَ فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه.
والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مُصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، مع الاعتقاد بأنَّ كل واحد من الصحابة ليس بمعصومٍ عن كبائر الإثم وصغائره، لكن لهم من السوابق والفضائل ما يُوجِب مغفرةَ ما يصدر منهم إنْ صدر، حتى إنهم يُغفر لهم من السيئات ما ليس لمن بعدَهم، أو بتوبة أو شفاعة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتُلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحقَّقة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟!
وأنَّهم خيرُ الخلْق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمَّة التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله.
كما يؤمِن بكرامات الأولياء، وما يُجري الله على أيديهم من خوارقِ العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، إضافةً إلى إيمانه بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما تُوجبه الشريعة، وكذلك يرى إقامةَ الحج والجهاد والجُمع والأعياد مع الأمراء؛ أبرارًا كانوا أو فجَّارًا.
وهو تابع لأهل السُّنة بأنهم يَدينون بالنصيحة للأمَّة، والصبر عند البلاء، والشُّكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء، ويدْعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والعفو عمَّن ظلم، ويدْعون إلى برِّ الوالدين، وصِلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، والبُعد عن الأخلاق السيِّئة؛ كل ذلك اتباعًا للكتاب والسنة، وتطبيقًا للشريعة التي بُعِث بها محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأما مذهبه، فقد نشَأ وتربَّى وتعلَّم على أصول المذهب الحنبلي، فأبوه وجَدُّه - بل أسرته - أعلامُ الحنابلة في دمشق والشام، ولكنَّه لم يقتصرْ في دراسته على المذهب الحنبلي؛ بل درس المذاهب الفقهية الأخرى، ثم آل أمره في آخر حياته إلى عدم التقيُّد بمذهب معيَّن، بل كان يُفتي بما يترجَّح له دليلُه، ومع ذلك فلم يكن يتعصَّب لإمام أو شيخ أو مذهب، بل يرى أنه مِن اليُسر اتباع الناس لأيِّ رأي من آراء العلماء؛ لهذا لما سأله تلميذُه الحافظ البزار تأليفَ نصٍّ في الفقه يجمع اختياراتِه وترجيحاتِه؛ ليكون عمدةً في الإفتاء، فقال له ما معناه: "الفروع أمرها قريب، ومَن قلَّد - المسلم - فيها أحدَ العلماء المقلَّدين، جاز لـه العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه"[34].
وكان يذكُر أنَّ اختلاف العلماء رحمةٌ واسعة، فقال: "ولهذا كان بعضُ العلماء يقول: إجماعهم حُجَّة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة"، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول[35]: ما يَسرُّني أنَّ أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يختلفوا؛ لأنَّهم إذا أجمعوا على قول فخالفَهم رجلٌ كان ضالاًّ، وإذا اختلفوا فأخَذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا، كان في الأمْر سَعة، وكذلك قال غيرُ مالك من الأئمَّة: ليس للفقيه أن يحملَ الناس على مذهبه [ثم نقَل عن بعض الشافعية قولَ بعضهم:] وليس لأحدٍ أن يُلزم الناس باتِّباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحُجج العلمية، فمَن تبيَّن له صحَّةُ أحد القولين تبِعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكارَ عليه"[36]، ومع هذا هو مجِلٌّ للأئمة، فيحترمهم ويدافع عنهم، وينهى عن الطعن فيهم، وأنهم وإنِ اختلفوا في مسائل، فهذا الخلاف إنما نشأ عن اجتهادِ كلِّ واحد منهم، ثم أرجع أسباب الاختلاف إلى أعذار ثلاثة، هي[37]:
الأول: عدم اعتقاده [أي: العالِم] أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاله.
الثاني: عدم اعتقاده إرادةَ تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أنَّ ذلك الحُكم منسوخ، ثم فصَّل القول على هذه الأعذار الثلاثة في رسالته: "رفْع الملام عن الأئمَّة الأعلام".
أخلاقه وسجاياه وبعض أقواله:
الكلام على أخلاق الإمام ابن تيميَّة وسجاياه، إنَّما هو كلامٌ على الآداب الإسلامية التي تجلَّت في شخصِه، وبرزت أخلاقه خلالَ اتِّباعه وتمسكه بالكتاب والسنة، فكان يُطبِّق ما فيها، حتى ظهرَ عليه في معاملاته وحُسْن عشرته.
والكلام على سجاياه يشمل الخِلْقية والخُلُقية: أما سجاياه الخِلقية، فيَصفه مؤرِّخ الإسلام الإمام الذهبي بقوله: "كان أبيضَ، أسودَ الرأس واللحية، قليلَ الشَّيْب، جَهْوَرِيَّ الصوت، شعره إلى شحمة أذنيه، فصيح اللِّسان، أعين كأنَّ عينيه ناطقتان، رَبْعة من الرِّجال، بعيد ما بيْن المنكبين، تعتريه حدَّة، لكن يقهرها بالحِلم"[38].
وأمَّا سجاياه الخُلُقية، فكثيرة كثيرة يصعُب حصرها في بحْث واحد، والأمر كما قال الإمام ابن الزملكاني:
"مَـاذَا يَقُـولُ الْوَاصِفُونَ لَـهُ وَصِفَـاتُهُ جَلَّتْ عَـنِ الْحَصْـرِ"[39]
والحافظ البزَّار بقوله: "فإنَّه قلَّ أن سُمع بمثله"[40].
ومن هذه الأخلاق ما يلي:
1- "إيثاره مع فقره: فكان - رضي الله عنه - مع رفْضه للدنيا وتقلُّله منها، مؤثِرًا بما عساه يجده منها؛ قليلاً كان أو كثيرًا، ولا يحتقر القليلَ فيمنعه ذلك عن التصدُّق به، حتى إنه إذا لم يجد شيئًا يتصدَّق به نزَع بعض ثيابه فيصِلُ بها الفقراء، وكان يستفضِل من قُوته الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك على نفسِه"[41]، وفي مرَّة رأى "الشيخُ محتاجًا إلى ما يعتمُّ به، فنزع عمامته من غير أن يسألَه الرجل ذلك، فقطعها نِصفين، واعتمَّ بنصفها، ودفع النصف الآخر إلى ذلك الرجل"[42].
2- كرمه: لقد عُرِف الإمام ابن تيمية بالكرم؛ لأنَّه "كان مجبولاً عليه، لا يتطبَّعه ولا يتصنَّعه؛ بل هو له سجية؛ فكان لا يردُّ مَنْ يسأله شيئًا يقدِر عليه مِن دراهم ولا دنانير ولا ثياب، ولا كتب، ولا غير ذلك، ولقد كان يجود بالميسور كائنًا ما كان، وقد جاءَه يومًا إنسانٌ يسأله كتابًا ينتفع به، فأمَرَه أن يأخُذ كتابًا يختاره، فرأى ذلك الرجل بيْن كتب الشيخ مصحفًا قدِ اشْتُري بدراهم كثيرة، فأخَذَه ومضى.
ومِن كرَمِه أنه كان ينكر إنكارًا شديدًا على مَن يُسأل شيئًا من كتب العلم التي يملِكها ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممَّن يطلبه"[43]، ومن جُودِه في العلم أنَّه كان كريمًا في نشْره للعلم، وبثِّه بين صفوف المجتمع كله، كما ذكر ذلك تلميذُه النجيب الإمام ابن القيم: "ولقد شاهدتُ من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله رُوحَه - في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سُئل عن مسألة حُكمية ذَكَر في جوابها مذاهبَ الأئمة الأربعة إذا قدَر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكَر متعلِّقات المسألة التي ربَّما تكون أنفعَ للسائل من مسألته، فيكون فرحُه بتلك المتعلقات واللوازم أعظمَ من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه - رحمه الله - بيْن الناس، فمن أحب الوقوفَ عليها رأَى ذلك، فمن جُودِ الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألةِ السائل؛ بل يذكر له نظائرَها ومتعلقها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه"[44]، وهذه حال هذا الإمام مع مَن يسأله كلها كَرَم.
3- ورعه: فكان مِن الغاية التي يُنتهى إليها في الورَع؛ لأنَّ الله - تعالى - أجراه مدةَ عمره كلها على الوَرَع، فإنَّه ما خالطَ الناس في بيع ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة ولا مزارعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا أو مباشرًا لمال وقْف، ولم يقبل جراية ولا صِلةً لنفسه مِن سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدَّخرًا دِينارًا ولا درهمًا ولا طعامًا؛ وإنما كانت بضاعتُه مدَّةَ حياته وميراثه بعدَ وفاته - رضي الله عنه - العلمَ؛ اقتداءً بسيد المرسَلين وخاتم النبيين سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصحْبه أجمعين، فإنَّه قال: ((إنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دِينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَثَّوا العلم، فمَن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر))[45].
والاتِّصاف بصِفة الورع من أبرز صِفات العالِم الربَّاني؛ ذلك أنَّه متطلع إلى ما عند الله، متسامٍ عن الدنيا، ومترفعٌ على مناصبها وزخارفها.
4- كراماته وفِراسته: لقد أظْهر الله - تعالى - على يدي هذا الإمام كراماتٍ، وأعطاه فِراسةً عُرِفت عنه، وشاهدها مَن رافقه؛ وذلك لاتِّباعه للكتاب والسنة، وهدْي السلف الصالح، ومنها ما حكاه الإمام البزَّار نفسه وشاهده، حيث قال: "جرى بيني وبيْن بعض الفضلاء منازعةٌ في عدة مسائلَ، وطال كلامنا فيها، وجعلنا نقطع الكلام في كلِّ مسألة بأن نرجع إلى الشيخ وما يرجِّحه من القول فيها، ثم إنَّ الشيخ - رضي الله عنه - حضَر، فلما هممنا بسؤاله عن ذلك سبقَنا هو، وشَرَع يذكر لنا مسألةً مسألةً كما كنا فيه، وقال: وكنت في خلال الأيام التي صحبتُه فيها إذا بحَث مسألة يحضر لي إيراد، فما يستتمُّ خاطري به حتى يشرَعَ فيورده، ويذكر الجواب من عدَّة وجوه، وحكَى عن رجل أنه قدم دمشق وأنفق ما معه فقابلَه الشيخ[46] ولم يعرفْه، فجاءَه وهشَّ في وجهه، ووضع في يده صُرَّة فيها دراهم صالِحة، فسأل: من هذا؟! قالوا: هذا ابن تيمية، وإنه لم يمرَّ بهذا الدرب منذ مدة طويلة.
وحدَّث عن شخص آخَر قال: إنَّه ذهب إلى مصر ومرِض، ولم يعرف أحد بحاله، واتَّفق أنَّ ذلك كان حين إقامة الشيخ بها، فما أحسَّ إلا بمن يناديه باسمه وكنيته، فدخل عليه ناسٌ وسألوه عن مرِضه ونقلوه، فقال لهم: كيف عرفتُم بقدومي وأنا قدمتُ في هذه الساعة؟ فذكروا أنَّ الشيخ أخبرَنا بأنك قدمتَ وأنت مريض!
وحكَى أنَّ من عادة الشيخ أنه كان يزور المرضى في البيمارستان بدمشق في كلِّ أسبوع، فجاء على عادته فعادَهم، فوصل إلى شابٍّ منهم، فدعا له، فُشفي سريعًا، وجاء إلى الشيخ يقصد السلامَ عليه، فلما رآه هشَّ لـه وأدناه، ثم دفع إليه نفقة، وقال: قد شفاك الله، فعاهِدِ الله أن تعجِّلَ الرجوع إلى بلدك، أيجوز أن تتركَ زوجتَك وبناتِك أربعًا ضيعةً، وتقيم ها هنا؟! فقبَّل يده وقال: يا سيِّدي، أنا تائب إلى الله تعالى، وقال الفتى: وعجبتُ ممَّا كاشفني به، وكنت قد تركتُهم بلا نفقة، ولم يكن قد عرَف بحالي أحدٌ من أهل دمشق.
وكراماتُ الشيخ - رضي الله عنه - كثيرة جدًّا، ومِن أظهر كراماته أنَّه ما سمع بأحد عاداه أو غضَّ منه إلا وابتُلي بعدَه بلايا، غالبها في دِينه، وهذا ظاهرٌ مشهور، لا يحتاج فيه إلى شرْح صفته"[47].
5- تواضعه وعدم تكبُّره: وهذا الخُلُق عرَفه كلُّ مَن رأى الشيخ، أو تعامل معه، فلم يُعهد عليه تكبُّر على أحدٍ مِن خلْق الله؛ بل كان دائمَ التودُّد إلى الناس، خاصَّة عوام الناس والمرْضى، والمساكين والمعوزين، فقد كان يختلط بهم، ويتكلَّم معهم، ويتعرَّف أخبارَهم، ويقضي لهم حاجاتِهم.
كما كان يذهب إلى الظَّلَمة ويردُّ إلى المسلمين الضعاف أموالَهم، كما حَدَث مع قطلو بك الكبير، وكذلك كان حريصًا على زيارة المرضى في البيمارستان كلَّ أسبوع، ولا يشغله عِلمُه وتعليمُه وجهادُه عن فِعْل تلك الأشياء، فكانت محبَّته في قلوب الصِّغار والكبار، حُكَّامًا ومحكومين، وعندما يقابل محتاجًا أو مسكينًا يهشُّ في وجهه ويُعطيه ما تيسَّر، وأحق الناس بالكلام عن تِلك الصفة مَن عاشره ولازَمه من تلاميذه، كما قال الحافظ البزار: "وأمَّا تواضعه، فما رأيتُ ولا سمعتُ بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والغني والصالح والفقير، وكان يُدني الفقيرَ الصالح، ويكرمه ويؤنسه، ويباسطه بحَديثه المستحلى زِيادةً على مثله مِن الأغنياء، حتى إنه ربما خدَمه بنفسه، وأعانه بحَمْل حاجته؛ جبرًا لقلْبه، وتقربًا بذلك إلى ربِّه، وكان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله؛ بل يُقبِل عليه ببشاشة وجه، ولِين عَرِيكة، ويقف معه حتى يكونَ هو الذي يفارقه؛ كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلاً أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالمًا أو عاميًّا، حاضرًا أو باديًا، ولقد بالَغ معي [القائل الحافظ البزار] في حال إقامتي بحضرتِه في التواضُع والإكرام، حتى إنه لا يذكرني باسمي؛ بل يُلقِّبني بأحسن الألقاب"[48].
كذلك كان يداعِب الصغار ويلاطفهم، وكان مِن تواضعه أنَّه إذا خرَج مع بعض تلاميذه لقِراءة الحديث "كان هو بنفسه يحمل الكِتاب، ولا يدع أحدًا يحمله، فلما قيل له في ذلك، وأنهم يخافون من سوء الأدب، فيقول: لو حملتُه على رأسي لكان ينبغي ألاَّ أحملَ ما فيه كلام رسولِ الله - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ وكان يجلس تحتَ الكرسي ويدَع صدر المجالِس، فيعجب تلاميذه مِن تواضعه، ورَفْعهم عليه في المجلس"[49]، وكان هذا حالَه مع غيره ممَّن يتعامل معه، حتى كانتْ محبته في قلوب كلِّ مَن رآه، أو سمع به.
وأما أقواله: فهي عباراتٌ رقْرَاقة قالها فحُفظت عنه وانتشرت، وهي إما أن تكون تلخيصًا لفِكرة، أو دعوة لفضيلة، أو تشجيعًا لعبادة، أو توضيحًا لأمْر، وأحيانًا تخرج منه تلقائيًّا أثناءَ جوابه لسؤال، أو تعليقه على موقِف معيَّن، وهي نتيجة لتبحُّره في العلوم، وتمكُّنه منها، وإنَّ انتشار تلك العبارات دليلٌ على إخلاصه؛ حيث وسائلُ نقل المعلومات محدودة في تلك الأزمان، ولكنَّها انتشرت وعُرِفت عنه، ولا يمكن لباحثٍ جمعها كلها إلا بمشقة لتناثرها، ولو جُمعت لكانتْ في مجلدة ضخمة، و"لابن تيمية كلامٌ خاص يستميلُ العقول، وله عباراتٌ أخَّاذة مؤثرة تُعلم بالاستقراء أنَّها لابن تيمية، فمَن سبر كتبَه، وقرأ رسائله، وتبحَّر في علومه حفِظ له مصطلحاتٍ وجملاً وكلمات، كأنَّها من الأمثال عندَ الشعراء، أو من الشواهد عند البلغاء، حتى تصلح أن تُكتب في براويز، وأن تُعلَّق من جودتها ومِن سطوعها"[50].
ومن هذه العبارات:
1- "المـؤمن مأمورٌ بأن يفعـل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور"[51].
2- " الذِّكْر للقلْب مثل الماء للسمك"[52].
3- " إنَّ في الدنيا جَنَّةً[53] مَن لم يدخلها[54] لا يدخُل جَنَّةَ الآخرة"[55].
4- "المحبوس مَن حُبِس قلْبه عن ربه - تعالى - والمأسور مَن أَسَره هواه"[56].
5- "ما يَصنع أعدائي بي؟! أنا جَنَّتي وبُسْتاني في صدري[57]، أين رحتُ فهي معي لا تُفارقني؛ إنَّ حبسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي مِن بلدي سياحة"[58].
6- "العبادة: اسمٌ جامِع لكلِّ ما يحبه الله ويرْضاه، مِن الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة"[59].
7- "النَّفْس لا تزكو وتصلح حتى تُمحَّصَ بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيِّده من رديئه، حتى يفتنَ في كِير الامتحان"[60].
8- "الطاعة والعبادة هي مصلحةُ العبد التي فيها سعادتُه ونجاته"[61].
9- "ما يقوم بالقلْب من الشعور والحال يُوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر مِن سائر الأعمال يُوجِب للقلب شعورًا وأحوالاً"[62].
10- "المشارَكة في الهديِ الظاهر تُورِث تناسبًا وتشاكلاً بيْن المتشابهين، يقود إلى موافقةٍ ما في الأخْلاق والأعمال"[63].
11- "كلُّ قائل إنَّما يُحتَجُّ لقوله لا به، إلا الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[64].
12- "ما ينبغي أن يُمنَع العِلمُ ممَّن يطلبه"[65].
13- "لن يخاف الرجلُ غيرَ الله إلا لمرَض في قلبه"[66].
14- "الإمامة في الدِّين موروثةٌ عن الصبر واليقين"[67].
15- "حصول العِلم في القلْب كحصول الطعام في الجِسم"[68].
16- "لا يُنال الهُدى إلا بالعلم، ولا يُنال الرَّشاد إلا بالصَّبْر"[69].
17- "العبادة مبناها على الشَّرْع والاتباع، لا على الهوى والابتداع"[70].
18- "كلُّ نقمة منه عدل، وكلُّ نِعمة منه فضل"[71].
19- "مَن أراد السعادة الأبدية، فلْيلزم عتبة العبودية"[72].
20- "لا تجعل قلْبك للإيرادات والشُّبهات مِثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعلْه كالزُّجاجة المصمَتة، تمرُّ الشبهات بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته"[73].
21- "مَن فارق الدليل ضلَّ السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم"[74].
تولِّيه التدريس:
تولَّى الإمام ابن تيميَّة منصبَ التدريس، وهو شابٌّ في العشرين من عمره، وهو أمر ليس بجديدٍ على تلك الأُسرة المعروفة بالعلم، فحياة الإمام ابن تيمية، ونشأته الأولى بيْن يدي أُسرته المعروفة بالعِلم، ونهله العلمَ منها ومِن علماء عصره منذ صغره، وكذلك ما ظهَر عليه من نبوغ منذُ صِغره، أهَّله لتولِّي منصب التدريس، فقد كان المكان له مهيَّئًا، وكرسي التدريس كان شاغرًا، حيث كان لأبيه مشيخةُ الحديث، فلمَّا توفي سنة 682هـ، تولَّى مكان أبيه بعدَ موته بسَنة؛ أي: وعمره اثنتان وعشرون سَنة، ممَّا جعله جديرًا بأن يتبوَّأ أعْلى المناصِب العلمية، مع ما منَّ الله - تعالى - عليه ووَهبه من هبات تكوَّنت بها شخصيته، وهو مع هذا وذاك "كان يحضر المدارسَ والمحافل في صِغره، فيُناظر ويفحم الكِبار، ويأتي بما يتحيَّرون منه، وأفتى وله أقل من تسع عشرة سَنة، وشرَع في الجمع والتأليف وبعُدَ صِيته في العالَم، فطبق ذِكْره الآفاق، وأخَذ في تفسير الكتاب العزيز أيَّام الجُمع [في سنة 681هـ] على كرسي مِن حفظه، فكان يورد المجلسَ ولا يتلعثم، وكذلك الدرس بتُؤدة وصَوْت جهوري فصيح"[75]، يبهر مَن سمع أو حضر، وحاله هذه مع حضور كِبار علماء عصره له، ومع ذلك لا يَسعُهم عند انتهائه من درسه إلا أن يُثنوا عليه، وعلى درْسه، وكثرة فوائده، ويُبدون دهشتَهم من سرعة بديهته واستحضاره، ثم ظل يترقَّى "بهذه الصِّفات الشخصية، وهذه المواهِب، وتلك المدارس، وذلك العلم الغزير، فألْقى دروسه في الجامِع الكبير بلِسان عربي مبين، فاتَّجهت إليه الأنظارُ، واستمعتْ إليه أفئدةُ سامعيه، وانتقل كثيرون مِن المستمعين إلى تلاميذ مريدين متحمِّسين معجبين، وصار له مِن بينهم مخلِصون إخلاص الحواريِّين الصدِّيقين، وكانت دروسه تجمع الموافِقَ والمخالِف، والبدعي والسني، ومعتنق مذاهب الجماعة ومذهب الشيعة، فكثر تلاميذه، وكثُر سامعوه، وكثر التحدُّث باسمه في المجالس العلمية، ودروسه وإنْ تعددت نواحيها تجمَعُها جامعةٌ واحدة، واتجاه واحد وهو إحياءُ ما كان عليه الصحابةُ أهل القَرْن الأول، الذي تلقى الإسلام صافيًا لم يرنق بأفكار غريبة، ولم تدرس في نحل بائدة، [بل] كان ينهج النهجَ الذي يعود بالإسلام إلى عهْد الصحابة في عقائده وأصوله وفروعه"[76].
وإنَّ تولِّيَه تدريس العلوم الشرعية، والدعوة إلى دِين الإسلام، والرد على الطاعنين: كافرين ومبتدعين، ومقلدين جامدين، ظلَّ ملازمًا له، حتى صعدتْ رُوحه إلى باريها، ولقد درَّس الناس وأفتاهم في الشام ومصر، وأجاب عن أسئلة واستشكالات كانت ترِدُ إليه من سائر بقاع الأرض، ومع كثرة ما يُوجد في شُروحه مِن إيضاحات وفوائد ولطائف، إلا أنَّه لم يكن يستعدُّ لشَرْح شيء معيَّن، فإنه "كان لا يُهيِّئ شيئًا من العلم ليلقيَه ويورده؛ بل يجلس بعد أن يصلِّيَ ركعتين، فيحمد الله ويُثني عليه، ويصلي على رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - [إذ إنَّه] كان لا يذكُر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قطُّ إلا ويُصلِّي ويسلِّم عليه على صفة مستحْسَنة مستعذبة، ثم يشرع فيفتح الله عليه إيرادَ علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، وفنون واستدلالات، بآيات وأحاديث، وأقوال العلماء، ونصر بعضها وتبيين صحَّته، أو تزييف بعضها وإيضاح حُجَّته، واستشهاد بأشعار العَرَب، وهو مع ذلك يَجري كما يَجري السيلُ، ويفيض كما يفيض البَحْر، وذلك كله مع عدم فِكْر فيه أو رويَّة، من غير تعجرُف ولا توقُّف ولا لحن، بل فيْض إلهي حتى يبهرَ كلَّ سامع وناظر، فلا يزال كذلك إلى أن يصمتَ، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب، ويُحيِّر الأبصار والعقول.
وإذا فرَغ مِن درْسه يفتح عينية، ويُقبِل على الناس بوجهٍ طلق بشيش، وخُلُق دمِث، كأنَّه قد لقِيَهم حينئذٍ، وربما اعتذَر إلى بعضهم من التقصير في المقال، مَع ذلك الحال"[77]، مع اختلاف منازلِ الحاضرين وعِلمهم مِن "علماء ورؤساء وفضلاء، من القرَّاء والمحدِّثين والفقهاء والأدباء، وغيرهم من عوام الناس"[78].
ويصِفُه تلميذه الحافظ البزَّار بقوله: "ولقد كان إذا قُرِئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم، يشرَع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجُملته، والدرس برُمَّته، وهو في تفسير بعض آية منها، وكان مجلسه في وقتٍ مقدَّر بقدر رُبُع النهار، يفعل ذلك بديهةً من غير أن يكون له قارئ معيَّن يقرأ له شيئًا معينًا يُبيِّته؛ ليستعدَّ لتفسيره، بل كان مَن حضر يقرأ ما تيسَّر، ويأخذ هو في القول على تفسيره، وكان غالبًا لا يقطع إلا ويَفْهَم السامعون أنَّه لولا مُضي الزمن المعتاد لأوردَ أشياء أُخرَ في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظرًا في مصالِح الحاضرين"[79]، ممَّا جعل محبته في قلوب الناس على اختلافِ مشاربهم، وتنوُّع توجهاتهم؛ لِمَا لمسوه من حرْصه عليهم، وعدم تكبُّره عليهم، ومخالطته لهم، ولا يمنَعُه من تعليمهم حبسٌ ولا ترسيم، وكذلك لا يمنعه لقاءُ عدوٍّ، أو أمْن وسِلْم في وطنه أو خارجه، أو كان على سفر.
مِن مِحْراب العلم إلى مَيْدان القتال[80]:
العالِم الربَّاني عابدٌ لله - تعالى - في كـل وقت، وعلى أيِّ حال، فإنْ كان في المسجد فهو المعلِّم الواعظ المرشِد، وإنْ كان على مِنبر فهو الخطيب المصقاع، وإنْ كان في الطريق، فهو ذاكِرٌ لله - عز وجل - آمِرٌ بمعروف أو ناهٍ عن منكر أو ناصح، وإنْ دعا داعي الجهاد كان أوَّلَ الملبِّين، وإنِ التحم الصفَّان كان هو المقاتلَ الصنديد، والمدافعَ المِقْدام الشجاع، وإنْ كان هناك مكانٌ شاغر من أماكن المرابطة، كان السابقَ إليه؛ لعلمه بفضْلِه وأهميته، كما أنَّ العالم يدخل بيْن الصفوف يشجِّع الجنود، ويُعلي مِن هِممهم، ويتلو عليهم آياتِ الجهاد والشهادة والمرابطة، ويَعِدهم بالنصْر الذي وعَد ربُّهم، وكان هذا حالَ الإمام ابن تيمية، فمَع أنه يعلِّم، فهو يقاتل، ولقد "كان الإمام ابن تيمية عاكفًا على الدَّرْس والفَحْص، والوعظ والإرشاد، وبيان الدِّين صافيًا نقيًّا، كما نزَل على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكما تلقَّاه السلف الصالح - رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم أجمعين.
ومع عُكوفه على الدَّرْس، كان متصلاً بالحياة والأحياء، يُقيم الحسبة، ويبلغ ولاة الأمر إن رأى أمرًا يُوجِب تبليغهم، [هذا وإن] ذلك العالِم الجليل ما كان يشغله درسُه عن شؤون الدِّين العامَّة، والقيام على حِراسته وحمايته مِن المتهجِّمين عليه، وأنه في سبيل حمايته لا يخشَى في الله لومةَ لائم"[81]، فالعالِم العامِل الربَّاني يحمل بيده مُصحفًا وسيفًا في الأخرى؛ إذ همَا بالنسبة إليه كجناحي الطائر، لا يُغني أحدهما عن الآخَر، وإنَّ وقوفه في مَيْدان القِتال وشجاعته، قد ضُرِبت بها الأمثال، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان، سواء ممَّن عاصروه أو تَرْجموا لـه، فكان ينزل منزلَ الموت عندَ اللِّقاء، ولا يراه المحارِبون إلا بعدَ انتهاء المعركة، وفي أثنائها مَن يراه يرى أسدًا هَصورًا مندفعًا، يصول ويجول، ويقاتل الأعداء طالبًا الشهادةَ، وإنْ رأى من الجنود وَهنًا أو ضعفًا أو جبنًا، شجَّعهم وثبَّت قلوبَهم مِن خلال تلاوته عليهم آياتِ الجهاد، وبما يرونه مِن قتاله وبسالته، وإنَّ تتبُّع كلِّ المعارك والوقائع التي شهِدها الإمام، أو حصْر مواقفه الشُّجاعة، ليست من السهولة بمكان، وبفَرْض حصرها، فجمُعها وسردها يحتاج إلى كتابةٍ مسهبة، ولكن الذي يُمكِنُنا هو الإشارةُ إلى بعض تلك المواقِف، الدالَّة على شجاعته وجرأته مع الأعداء على اختلاف مشاربهم وتنوُّعهم، كما يلي:
1- جهاده وقتاله ضدَّ التتار - وهو الأغلب.
2- جِهاده وقتاله ضدَّ النَّصارَى.
3- جهاده ضد الروافض والمعتدين.
أمَّا جِهاده ضدَّ التتار، فمعروفٌ ومشهور، فمِن ذلك موقفُه من غازان ملك التتر، حيث ذهب إليه هو ووفدٌ من أعيان دمشق في 699هـ، حيث أغلَظ له القول، وكان ذلك الموقف سببًا في عدم اعتداء ذلك الملِك على دمشق، وكذلك بعدَ رحيل التتار خاف الناس مِن عودتهم مرَّةً أخرى، فاجتمعوا حولَ الأسوار لحِفظ البلاد، وكان الإمام يدور عليهم كلَّ ليلة يُثبِّت قلوبهم ويصبِّرهم، وبعد ذلك في سنة 700هـ لما طارتْ شائعة قدوم التتار مرَّةً ثانية لغزو الشام، وخاف الناس وهَرَب كثيرٌ من الأعيان والأُمراء والعلماء، ولكن الإمام ابن تيمية جلَس في الجامِع يحرِّض الناس على القِتال، وينهاهم عن الفرار، ويحثُّهم على فضْل الإنفاق في سبيل الله.
ولما تسامعتِ الأخبار بأنَّ السلطان تراجَع عن الحرْب، سافَر إليه الإمام، وأتى مصر ليحثَّه على الجهاد ويثبِّت قلْبه، ووعْده بنصْر الله - عز وجل - ثم خاطَب السلطان بلهجةٍ غليظة قائلاً لـه: "إنْ كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمْنا سلطانًا يحوطه، ويستغلُّه في زمن الأمْن"[82]، ولقد ظهرتْ شجاعة الإمام ابن تيمية، ولمعَتْ في جهاده في نوبة شَقْحب سنة 702هـ، بتحريضه على القِتال، وبتثبيت السلطان والأمراء والجنود، ووعْده إيَّاهم بالنصر، وكان يقبل على الخليفة تارةً، وعلى السلطان أُخْرى، ويربط جأشهما ويشجعهما، حتى كتَب الله النصر للمسلمين، فارتفعتْ منزلة الشيخ، وعلا قدرُه عند العامَّة والخاصَّة، وعرَفوا فضله، ودوره في إحراز النصْر.
وأمَّا جهاده ضدَّ النَّصارى، فقد حكَى تلميذه وصاحبه الحافظ البزَّار عمَّن رأَوا الشيخ وشاهدوه في جهاده ضدَّ النصارى، فقال: "وحدَّثوا أنهم رأَوْا منه في فتْح عكة أمورًا من الشجاعة يُعجَز عن وصفها. قالوا: ولقد كان السببُ في تملُّك المسلمين إيَّاها بفِعْله ومشورته"[83].
وكان ذلك في سَنة 690هـ، وكان عمره أقلَّ من ثلاثين سَنة، وهذا ليس بمستغرَب، فقد عُرِف وهو صغير، واشتهر أمره، وتناقلت الأخبار في البلدان منذ نعومة أظفاره بإلْقائه الدروسَ، وإفحامه لخصومه، كما اشتهر وهو دون العشرين وجلَس مجلس التفسير وهو في نفس سِنِّ قتاله مع النصارى، فلا بدَّ وأنه قد شارَك معهم، وعُرِف أمره، واشتهر في تلك المعركة لَمَّا نادى منادي الجهاد، فاستعدَّ المسلمون للقِتال "ونُودِي في دمشق: الغزاة في سبيل الله إلى عكة... وخرجت العامَّة والمتطوِّعة يجرون في العجل حتى الفقهاء والمدرِّسين والصلحاء... وخرج الناس من كل صوب"[84].
ومِن جهاده ضدَّهم أنه "لمَّا ظهر السلطان غازان على دمشق المحروسة، جاءه ملِك الكَرَج وبذَل له أموالاً كثيرةً جزيلةً؛ على أن يمكِّنَه من الفتْك بالمسلمين من أهل دمشق، ووصل الخبرُ إلى الشيخ، فقام من فوْره، وشجَّع المسلمين ورغَّبهم في الشهادة، ووعدهم بالنصر والظفر، والأمن وزوال الخوف، فانتُدب منهم رجالٌ مِن وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم، فخرجوا معه إلى حضرةِ السلطان غازان، فلما رآهم السلطان، قال: من هؤلاء؟ فقيل: هم رؤساء دمشق، فأذن لهم، فحَضَروا بيْن يديه، فتقدَّم الشيخ - رضي الله عنه - أولاً، فلمَّا أن رآه، أوقع الله له في قلْبه هيبةً عظيمة، حتى أدناه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أولاً في عكس رأيه عن تسليط المخذول ملِك الكَرَج على المسلمين، وضَمِن له أموالاً، وأخبره بحُرْمة دماء المسلمين، وذكَّره ووعَظه، فأجابه إلى ذلك طائعًا، وحُقِنت بسببه دماءُ المسلمين، وحُميت ذراريهم، وصِين حريمُهم"[85].
فجهاده ضد النصارى كان مباشرةً بالسيف، كما كان غيرَ مباشر عن طريق دفْع ضررهم، وإحباط محاولتهم الفاشلة في الاستيلاء على المسلمين من قِبَل التتار.
وأمَّا جهاده ضدَّ الروافض والمعتدين، فمِن ذلك في سنة 704 هـ، حيث إنَّه "لم يزل الشيخ - رحمه الله - قائمًا أتمَّ قيام على قِتال أهل جبل كِسْروان، وكتب إلى أطراف الشام في الحثِّ على قتالهم، وأنها غزاة في سبيل الله، ثم توجَّه هو بمَن معه لغزوهم بالجبل، وبصُحبته ولي الأمر نائب المملكة، وما زال مع وليِّ الأمر في حِصارهم، حتى فتح الله الجبل، وأجلى أهله"[86]، ونصَره الله عليهم، وأخْمد فِتنتهم، وألْزمهم اتِّباعَ الشريعة المطهَّرة قولاً وعملاً واعتقادًا.
مكانته ومرتبته الاجتهادية:
لقد تبوَّأ الإمامُ ابن تيمية مكانةً عِلميةً عاليةً مرموقة، وظلَّ طوالَ حياته يترقَّى، حتى صار أعلمَ أهل زمانه بالمعقول والمنقول، وكانت لـه اليدُ الطُّولَى في التصنيف، كما كان مبرزًا في علوم اللغة، وكان عَلَمًا في الجهاد والإصلاح والصلاح، شهِد بذلك كلُّ مَنْ رآه أو تعامل معه، و"لقد أجمع الذين عاصروه على قوَّة فِكْره، وسَعة علمه، وأنه بعيدُ المدى، عميقُ الفِكرة، يستوي في ذلك الأولياء والأعداء؛ فإنَّ تلك القوة الفكرية هي التي أثارتِ الأولياء لنُصرته، وأثارتِ الأعداء لعداوته"[87].
و"أما معرفته بصحيح المنقول وسقيمه، فإنه في ذلك مِن الجبال التي لا تُرْتَقى ولا يُنال سنامها، فقلَّ أن ذُكِر لـه قول إلا وقد علِمه بمبتكره وذاكره، وناقله وأثره... حتى كان إذا ذَكَر آية أو حديثًا وبيَّن معانيَه وما أُريد به، أُعجِب العالِم الفطن من حُسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقَف عليه منه"[88].
ووُصِف بأنه كان غزيرَ العلم "أما غزارة علومه، فمنها: ذكْر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقْله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أوْدَعه الله - تعالى - فيه من عجائب وفنون حِكَمِه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنَّه فيه الغايةُ التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يُعوَّل عليها"[89].
وقد قال أحدُ أصحابه وتلاميذه ممن يكبره سِنًّا[90]: "ولا يعرف حقَّه وقدْرَه إلا مَن عرَف دين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحقه وقدْره"[91]، فمكانته العِلمية كانت في الذروة من العلماء، وكان مرجعَ الناس في العلوم العقلية والنقلية.
وأمَّا مرتبته الاجتهادية، فإنَّه قد بلَغ مرتبةً اجتهادية عالية، وهذه المنزلة هي أنَّه مِن كِبار المجتهدين المنتسبين إلى مذهب الحنابلة في الفِقه، و"إنه - بلا شكٍّ - مِن حيثُ أدواتُ الاجتهاد، والمدارك الفقهيَّة، ومن حيث عِلْمه بالسُّنة واللُّغة، ومناهج التفسير وفَهْمه للقرآن وأصول السُّنة، وإحاطته بالحديث دِرايةً وروايةً، يُوضَع في الدرجة الأولى مِن الاجتهاد، فإنْ نظرنا إلى ذلك وحْده، فسنضعه في مرتبة المجتهدين المستقلِّين، ولكن نجده قد سلَك في استنباطه مسلَكَ الإمام أحمد في الجُملة، متقيدًا بأصوله، وفوقَ ذلك أنَّ الذي انفرد به لا يُعدُّ كثيرًا؛ بل نادرًا لا يكاد ينفرد - كما نوهنا - فإنْ تقيدْنا بهذه الناحية، فإنَّا بمقتضى القواعد المقرَّرة نضعه ضمنَ المجتهدين في المذهب الحنبلي، إنَّه - بلا شك - قد استوفى في شخْصه كلَّ شروط المجتهد المطلَق من الأدوات، والعِلْم والمدارك، ولكن مِن ناحية الموضوعاتِ التي وصَل فيها إلى نتائجَ مخالفة، ومِن حيث منهاجُه، نجدها لا تخرُج به عن الإطار المذهبي"[92].
ونحْن مع الشيْخ أبي زهرة فيما قرَّره من المرتبة العِلميَّة لشيخ الإسلام وتربُّعِهِ - رحمه الله - على عرْش الاجتهاد المطلَق، إلا أنَّنا لا نُسلِّم بالقول بأنَّ اجتهاداته لا تخرج به عن الإطار المذهبي؛ لأنَّ هذا يخالف الواقع، وما قرَّره شيْخ الإسلام نفسُه وكِبار تلامذته؛ مثل: الإمام ابن قيِّم الجوزية وغيره، فقد كان - رحمه الله - مجتهدًا مطلقًا، غير متقيِّدٍ بمذهب معيَّن، ولا دائر في فلَك المذهبيَّة، وكان لا يَقبل من أقوال المذاهب إلا ما وافَقَ الدليل، ومما يدلُّ على صِحَّة ما نقول، ما خالَف فيه شيخُ الإسلام المذاهبَ الأربعةَ من المسائل، ومِن أشهر هذه المسائل بَحْثُه في جواز طواف الحائض إذا لم يُمكن لها أن تطوفَ طاهرةً، وخَشِيت فواتَ رفقتها، واعتبار طلاق الثلاث بلفظ واحِد طلقةً واحدةً ولو فُرِّقت، وأنَّ الحَلِف بالطلاق يَمينُه مكفّرة.
وهذه المرتبة العِلمية والاجتهادية إنَّما وصل إليها؛ "نظرًا لاستبحاره في السُّنة، وتفسير القرآن، وعلوم السلف"[93]، ونتيجةً لعلوِّ كعْبه في العلوم الشرعية، فإنه أصبح في آخِر عمره لا يتقيَّد بمذهب معيَّن؛ بل بما أدَّاه إليه اجتهاده، وقد وصفَه تلميذه الإمام الذهبي بقوله: "وبقِي عدَّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن؛ بل بما قام الدليلُ عليه عنده"[94]، ويرجع هذا لرِفْعة شأنه، وعلوِّ كعْبه، وتبحُّره في العلوم الشرعية والعقلية، حيث تأتي إليه الفتاوى فيُفتي بما أدَّاه إليه اجتهادُه وإدراكه، مع إحاطته بعلوم السَّلف، ولربَّما خرَج من نتائج فتاواه لموافقةِ إمام من الأئمَّة المتبوعين، أو وافَق عالِمًا من سلف هذه الأمَّة من غير تقليد، وإنَّ القارئ لفِقه ابن تيمية في كلِّ أبوابه يلمَح فيه عقليةَ الفقيه المجتهد، الذي تحرَّر من القيود المذهبية في دِراسته، ولا يلمح فيه المقلِّدَ التابع من غيْر بيِّنة وبُرْهان، هذا بالنسبة للفِقه، أمَّا في الاعتقاد، فهو على مذهَب السَّلف الصالِح؛ مذهب أهل السنة والجماعة.
أقوال العلماء فيه:
لَقَدْ أثْنى كِبارُ علماء عصْر الإمام ابن تيمية عليه، وأكثروا من ذلك؛ لِمَا لمسوه من جَمْعه بيْن القول والعمل، وبيْن الإمامة في الدِّين والزهد في الدنيا بزَخارِفها، وبما رأَوْا منه من موافقة للسلف الصالح، وإحيائه لهَدْيهم، وحمْله رايةَ الجهاد في سبيل الله.
ولو أردْنا استقصاءَ كلِّ مَن أثْنى عليه مِن علماء عصْره، ومَن أتى بعده، لَمَا استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ نظرًا لكثرة مَن أثنى عليه من علماء عصره، أو مَن أتى بعدهم، أمَّا ما يتعلَّق بعلماء عصره، فإنَّنا "نستطيع أن نقول: إنَّ كل علماء عصْره عَلِموا قدْرَ علمه، حتى مَن ناوأه وحاول إيذاءه؛ لأنَّه قد ضاق صدرُه حرجًا بمخالفته، وما يأتي به من جديد، وإنْ لم يستمدَّ من القديم قوته، فلم يوافق عليه"[95]، ولنقتبس بعضًا مِن تلك المشكاة، والتي تكوَّنت من العلماء الذين أثْنَوْا عليه، فمن هؤلاء:
• الإمام ابن دقيق العِيد: "لَمَّا اجتمعتُ بابن تيمية رأيتُ رجلاً كلُّ العلوم بيْن عينيه، يأخذ ما يريد ويدَع ما يريد، وقلت له: ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله بقِي يخلُق مثلَك!"[96].
• ومنهم الإمام الذهبي: "كان آيةً من الذكاء وسُرْعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسُّنة والاختلاف، بحرًا في النقليَّات، هو في زمانه فريدُ عصْره علمًا وزهدًا، وشجاعةً وسخاءً، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وكثرةَ تصانيف"[97]، وقال أيضًا: "وهو أكبرُ مِن أن يُنبِّهَ على سِيرته مثلي، فلو حُلِّفتُ بين الركن والمقام، لحلفتُ أني ما رأيت بعَيني مثلَه، وأنه ما رَأَى مثلَ نفسه في العِلم"[98].
• وقال الإمام عَلم الدِّين البِرْزَالي: "كان إمامًا لا يُلحق غبارُه في كل شيء، وبلغ رُتبةَ الاجتهاد، واجتمعت فيه شروطُ المجتهدين"[99].
• وقال الإمام ابن الزَّمْلَكاني: "اجتمعتْ فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وإنَّ له اليدَ الطُّولى في حسن التصنيف، وجَوْدة العبارة، والترتيب والتقسيم، والتديُّن، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات:
"مَاذَا يَقُولُ الْوَاصِفُونَ لَهُ وَصِفَاتُهُ جَلَّتْ عَنِ الْحَصْرِ
هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ قَاهِرَةٌ هُوَ بَيْنَنَا أُعْجُوبَةُ الدَّهْرِ
هُوَ آيَةٌ فِي الْخَلْقِ ظَاهِرَةٌ أَنْوَارُهَا أَرْبَتْ عَلَى الْفَجْرِ" [100]
• وقال الإمام ابن سيِّد الناس: "ألفيتُه ممَّن أدْرك من العلوم حظًّا، وكان يستوعب السُّنن والآثار حِفظًا، إن تكلَّم في التفسير فهو حامِل رايته، وإنْ أفْتى في الفِقه فهو مدرك غايته، أو ذاكَر بالحديث فهو صاحِب عِلْمه، وذو روايته، أو حاضَر بالنِّحل والمِلل لم يُرَ أوسعُ من نِحلته، ولا أرْفعُ من درايته، برَّز في كلِّ فن على أبناء جِنسه، ولم ترَ عينُ مَن رآه مثلَه، ولا رأتْ عينه مثلَ نفسه"[101].
• وقال الإمام المِزيُّ: "ما رأيتُ مثلَه، ولا رأى مثلَ نفسه، وما رأيت أحدًا أعلمَ بكتاب الله وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أتبع لهما منه"[102].
• وقال الإمام ابن الحريري[103]: "إنْ لم يكن ابن تيمية شيخَ الإسلام، فمَن هو؟!"[104].
• وقال أبو حيَّان التوحيدي: "ما رأتْ عيناي مثله، ثم مدحه أبو حيان على البديهة لَمَّا اجتمع به في المجلس"، فقال:
لمََّا أَتَيْنَا تَقِيَّ الدِّينِ لاَحَ لَنَا
دَاعٍ إِلَى اللَّهِ فَرْدٌ مَا لَهُ وَزَرُ
عَلَى مُحَيَّاهُ مِنْ سِيمَا الأُولَى صَحِبُوا
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ نُورٌ دُونَهُ الْقَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبَرًا
بَحْرٌ تَقَاذَفَ مِنْ أَمْوَاجِهِ الدُّرَرُ
قَامَ ابْنُ تَيْمِيَّةٍ فِي نَصْرِ شِرْعَتِنَا
مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إِذْ عَصَتْ مُضَرُ
فَأَظْهَرَ الْحَقَّ إِذْ آثَارُهُ دَرَسَتْ
وَأَخْمَدَ الشَّرَّ إِذْ طَارَتْ لَهُ الشَّرَرُ
كُنَّا نُحَدَّثُ عَنْ حَبْرٍ يَجِيءُ فَهَا
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي قَدْ كَانَ يُنْتَظَرُ
• وقال الإمام ابن الوردي:
إِنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ فِي كُلِّ العُلُومِ أَوْحَدُ
أَحْيَيْتَ دِينَ أَحْمَدٍ وَشَرْعَهُ يَا أَحْمَدُ [105].
فهذه بعضُ النقول عن تِلْك الأعلام من كِبار علماء عصْره، والذين شاهدوه وعاصروه، وقالوا ما قالوه فيه بعدَ الاجتماع به، وأمَّا أقوال المتأخِّرين، فكثيرةٌ جدًّا، وإنما ينقُلون عن هؤلاء الأئمَّة الأعلام، وبعضهم يقول فيه مِن خلال مؤلفاته وتراجمه، ومِن هؤلاء المتأخِّرين عنه الإمام ابن رجب الحنبلي[106]: "الإمام الفقيهُ، المجتهد المحدِّث، الحافِظ المفسِّر الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعَلَم الأعلام، وشهرته تُغْني عن الإطناب في ذِكْره، والإسهاب في أمره"[107].
والإمام ابن حجر العسقلاني[108] بقوله: "قرَأ بنفسه ونَسَخ سُنن أبي داود، وحصَّل الأجزاء، ونظر في الرجال والعِلل، وتفقَّه وتمهَّر، وتميَّز وتقدَّم، وصنَّف ودرَّس وأفْتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سُرعة الاستحضار، وقوَّة الجَنان، والتوسُّع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السَّلَف والخَلَف"[109].
والإمام السيوطي بقوله: "شيخ الإسلام، أحَدُ المجتهدين"[110].
والإمام الشوكاني[111] بقوله: "شيْخ الإسلام، إمام الأئمَّة، المجتهد المطلق"[112].
والشَّيْخ محمَّد أبو زهرة[113] بقوله: "الإمام الجَريء، العالِم الكاتِب، الخطيب المجاهِد"[114]، كـما وصفَه بـأنَّه مـجتهدٌ منتسِب لمـذهب الحنابلة[115].
كما وصَفه الإمام مـرْعي الكرمي[116]، بقوله: "شيْخ الإسلام، وبحْر العلوم، ومفْتي الفِرق، المجتهد تقي الدِّين، ابن تيمية"[117].
وغيرهم الكثير والكثير، ممَّن ترْجَموا لهذا الإمام، فمنهم مَن ترجَمه في كتاب مِن كتبه، ومنهم في أكثر مِن ذلك، كما أنَّ مَن يترجمون لحياة هذا الإمام إمَّا تكون ترجمةً لجانب معين: علمي أو فقهي أو تربوي، أو عقدي أو إصلاحي، وإما ترْجمة عامَّة لحياته، مما يدلُّ على علوِّ كعْبه، ورِفْعة شأنه بيْن العلماء المتقدِّمين والمتأخِّرين.
دَوْره الإصلاحي والجهادي وسبب محنته:
دَوْره الإصلاحي: هناك ثمَّة فرْق بيْن المصلحين والصالحين: فالمصلِحون يبنون الأجيال والجماعات والأمم، بينما الصالِحون لا يَبنون إلا أنفسَهم، وشأن المصلِحين عظيم؛ إذ إنَّه يرتبط، بمصير أمَّته، وإنَّ إمامًا كالإمام ابن تيمية كان مِن كِبار المصلحين؛ لأنَّه ما تخلَّى عن أمَّته وعكَف على كتبه ودرسه، بل شارك أمَّتَه همومَها وأفراحها، وتمثَّل إصلاحه في أمور خارجية لها ارتباطٌ بالأمم الأخرى.
فمِن الأمور الداخلية يبرز دورُه الإصلاحي في نشْر العلم، وتعظيم الكتاب والسُّنة، وتوقير أئمَّة السلف الصالح، وذلك بالتطبيق العملي للاقتداء والاتباع ونَبْذ التقليد، ومِن ذلك أيضًا فتْح باب الاجتهاد، ومِن الأمور الداخلية أيضًا القضاءُ على بعض البِدع، والتي قد تسرَّبت إلى الأمَّة الإسلامية، وكذلك حثُّه للسلطان على قِتال الطوائف الممتنِعة عن تطبيق الشريعة، وإفتاؤه بأنَّ قتالهم هو من جِنس قِتال الخوارج الذين قاتلَهم عليٌّ - رضي الله عنه - ومِن جنس الذين قاتلَهم أبو بكرٍ الذين امتنعوا مِن إعطاء الزكاة، ومن تلك الطوائف مَن يكونون ذوي شوكة، فيحاربون من قِبَل السلطان، ومنهم غير ذلك، فيجادلون بالحُجَّة ويقارعون، حتى يرجعوا إلى أحكام الشريعة المطهَّرة.
ومِن الأمور التي كان له دورٌ في إظهارها: أمرُه بالمعروف ونهيه عن المنكر، بدءًا مِن السلطان والأمراء، بحثِّهم على تطبيق الشَّرْع، وإقامة حكم الله - سبحانه وتعالى - ومرورًا بالعلماء والقضاة، ودَوْره في اختيار بعضهم إذا طلَب منه الأمير ذلك، وانتهاءً بالعامَّة وتعليمهم، سواء في المسجد، أو في السُّوق، أو في الحياة العامَّة، حتى في الحَبْس والسِّجن، ودعوتهم لفِعْل الخيرات وترْك المنكرات.
ومِن الأمور الخارجية، والتي هي متعلِّقة بالأُمم الأخرى: دحْضُ افتراءات المعتدين، وتفنيد شبهاتهم، وردُّه عليهم تارةً، ودعوتهم إلى الإسلام تارةً أخرى، وأيضًا كان لـه دَوْر في محاربة البِدع الوافدة على المسلِمين من أمور التشبُّه والأعياد، أموأمأ وتقديس المخلوقات كما في كتابه: "اقتضاء الصِّراط المستقيم"، ومنها أيضًا الردُّ على من يَسُبُّ النبيَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في كتابه: "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم".
وقد بارَك الله لهذا الإمام في مَسْعاه، فما قُبِضت رُوحُه إلا وقد طبقتْ شهرته الأرض شرقًا وغربًا، وكان لكلامه وأحواله وتآليفه أبلغُ الأثر في إحياء الأُمم، ونهضة الشعوب، وإيقاظ الهمم، حتى إنَّه قد اعتنق آراءَه الإصلاحية كثيرٌ من العلماء بعدَه، واستنار المجدِّدون بهداه لِمَا التزم به من التقيُّد بالكتاب والسُّنة على فَهْم علماء هذه الأمَّة من السلف السابقين، وممَّن اتبعهم بإحسان، كما قامتْ حركات إصلاحية في شتَّى بقاع الأرْض، وأقامت مبادئها على تلك الأصول والقواعد التي أسَّسها ذلك الإمامُ العملاق.
أمَّا جهاده، فهو غُرَّة في تاريخ ذلك الإمام، حتى إنَّه ليكادُ أن تكون حياته كلُّها جهادًا، سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي، وقد مرَّتِ المواقِف الجهاديَّة والقتالية، وسبقت الإشارةُ إلى شجاعته وجُرأته مع التتار، أو مع النصارى، أو حتى مع الفِرَق المبتدعة الضالَّة ذات الشوكة الخارجة عن السلطان، وكذلك مِن جِهاده بالكلمة أمامَ الحكَّام؛ لإلزامهم بتطبيق الأحكام الشرعية.
أما مِحَنه، وهي التي كانت ملازمةً له في حياته، و"لسنا نقصد بمِحْنة الشيخ إهانتَه، فقد عاش - رحمه الله - معزَّزًا مكرمًا، حتى في محْبَسه، فحيثما حلَّ كان الإجلالُ والاحترام؛ وإنما نقصد بالمِحْنة: الحبس وتقييد حُريَّته في الخروج والدعوة"[118]؛ إذ العالِم أشد شيءٍ على نفسه حبسه عن تبليغ شرْع الله، وعدم تعليمه الناس، والمسلِم يبتليه الله - سبحانه وتعالى - بابتلاءات، وهي "محنٌ من الله - تعالى - يبتليه بها، ففرْضُه فيها الصبر والتسلِّي"[119].
وهي في ظاهرِها مِحن، ولكنَّها مِنَح وعطايا في صورة بلايا، وإنَّما ابتُلي هذا الإمام بتلك المحن على مرِّ سِنِي عمره؛ نظرًا لأنَّه قد "بلغتْ مكانته الذروةَ، فقد علا على المنافسة، وصار اسمُه في كلِّ مكان، وكان ذا عزيمة من حديد، ولسان ذرب قوي، وإرادة عاملة، وقد كان ذلك لمصلحةِ الإسلام والمسلمين، وقد أثارتْ منزلته حِقدَ مَن لم يبلغ شأوَه من هذه الصفات، ولم يصلْ إلى مرتبته منها"[120].
فصدْعُه بالحق مع إخلاصه، جعلاه كالشامة بيْن علماء عصره، والذين قبعوا على التقليد الأعْمى، أو التعصُّب المقيت، أو الهوى؛ طمعًا في منصب لا يدوم، "وهكذا نجد ابنَ تيمية المصلح والمربِّي، يدخل في معركة متعدِّدةِ الجبهات، ويحارب على مختلف الواجهات؛ دفاعًا عن مصدرية القرآن والسُّنة، ودحضًا لكلِّ وساطة مهما كان شكلُها وصاحبها، مما ألَّب عليه خُصومَه من المذاهب والطرق، وسلطان زمانه الذي أدْخله سجنَه، حتى مات فيه - رحمه الله - لكنَّه ترَك لنا تراثًا ضخمًا، يؤصِّل فيه للمنهج التوحيدي في مجال التديُّن وتربية الناس عليه، شكَّل مادةً مرجعية هامَّة للحركات الإصلاحية التي جاءتْ بعد"[121].
وعلى كلٍّ، فمِحن هذا الإمام جعلَها الله - سبحانه - مِنحًا عليه وعلى مَن حلَّ ومكث عندَهم، فلما "سار إلى مصرَ، وكان ذلك سنة 705هـ، وحيثما حلَّ كان نورًا وهداية، فعندما مرَّ بغزة عقَد في جامعها مجلسًا كبيرًا، وألْقى درسًا من دروسه الحَكيمة... وكذلك في سنة 707هـ قام بالتدريس في مصر، حتى نفَعَ الله به خَلْقًا كبيرًا، ورَأَوْا فيه رجلاً خالصًا في قلْبه وعقْله لله ربِّ العالمين"[122].
ولكن كان ما كان مِن أصحاب الحَسَد الدفين في قلوب المرْضى من هؤلاء، إنَّما كان لجهره بكلمة الحقِّ وخضوعهم، ولأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتركهم، ولمحبَّة الناس لـه، بل إنَّ منهم مَن وشى ضدَّه عند ذوي السلطان؛ لأنَّه خالفهم في آرائهم؛ كغُلاة المتصوِّفة والمبتدعة، وجهلة المقلدة، وأصحاب المناصِب والخائفين على أماكنهم، والذين قد باعوا دِينَهم بدنيا غيرهم.
وكذلك حياةُ الإمام منظومة مِن المِحن تتابعتْ عليه، حيث إنَّه سُجِن سبع مرَّات[123]: أربع مرات بمصر، بالقاهرة والإسكندرية، وثلاث مرَّات بدمشق، وكانت بداية السجن له حينما بلَغ الثانية والثلاثين من عمره، وبعد عودته من الحج، حيث بدأ تعرُّضه لأخبئةِ السجون، وبلايا الاعتقال والترسيم عليه؛ "أي: الإقامة الجبرية" خلالَ أربعة وثلاثين عامًا، ابتداءً من عام 693هـ إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق، يومَ الاثنين 20 ذي القعدة سنة 728هـ، ولسجناته أسباب متعدِّدة:
أما السجنة الأولى، فكانتْ بدمشق عام 693 هـ لمدة قليلة.
وأمَّا السجنة الثانية، فكانتْ بمصر بسبب مسائلَ في الصِّفات؛ كمسألة العرْش والنزول، وكانتْ لمدة سَنَة وسِتَّة شهور مِن رمضان 705هـ - شوال ربيع الأول 707 هـ.
وأما السجنة الثالثة، فكانتْ بمصر بسبب مسألة منْعِه الاستغاثةَ والتوسل بالمخلوقين، وكلامه في ابن عربي الصوفي، وكانت هذه المدة يسيرة، ابتداءً من أول شوال 707 هـ - 18 شوال 707 هـ.
وأمَّا السجنة الرابعة، وكانتْ بمصر، وهي امتدادٌ للثالثة لمدَّة تزيد على شهرين من آخر شوال 707 هـ - أول سنة 708 هـ.
وأما السجنة الخامسة، فكانت بمصر، وهي امتدادٌ للرابعة، حيث وقَع الترسيم عليه بالإسكندرية لمدة سبعة شهور وأيام، من غرة ربيع الأول 709 - شوال 709هـ، وكان ذلك بإيعازٍ من بعض المغرِضين.
وأما السجنة السادسة، فكانتْ بدمشق بسبب مسألة الحَلِف بالطلاق، وأنه من الأَيْمان المُكفَّرة، وكانتْ لمدة خمسة شهور وثمانية وعشرين يومًا من 12 رجب 720 هـ - إلى 10 محرم 721 هـ.
وأما السجنة السابعة والأخيرة، فكانت بدمشق بسببِ مسألة الزِّيارة السُّنية والبدعية للمقابر، ودامت لعامين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، ابتداءً من يوم الاثنين 6 شعبان 726 هـ - إلى ليلةِ وفاته ليلة الاثنين 20 ذي القعدة 728 هـ[124].
وجعَل الله - سبحانه وتعالى - له وللأمَّة خيرًا كثيرًا، ولقد هدَى الله - عزَّ وجلَّ - على يديه في السجن خَلْقًا كثيرًا، كما انتشر علمُه من مصر إلى شمال إفريقيا والأندلس، والأمر كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]، وقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
عزوفه عن الزواج وسببه:
لقد حثَّ الإسلام على الزواج، ورغَّب فيه، وحضَّ عليه؛ ذلك أنَّ الإسلام دِين الفطرة، كما قال - سبحانه -: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: 30]، فهو يدعو إلى الفِطْرة، ويحافظ عليها، وأكَّد عليها، وسدَّ كلَّ باب وكلَّ منفذ يخدِش جانبًا من جوانبها، واستمرارًا لهذه الفِطرة؛ حثَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الزواج، ودعَا إليه الشباب بقوله: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوجْ، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفَرْج))[125]؛ لأنه "أمر مركوزٌ في الطبيعة الإنسانية، يسعى الإنسان إليه بدافع الفِطرة، وهو شطر هام كبير مِن الحاجة الأصلية في هذه الحياة، محقِّق لاكتمال الذات، وإنشاء الذرية، وبقاء النسل والنوع الإنساني، وعمارة الكون... ولما له أيضًا من آثار طيِّبة على سلوك الإنسان في طُهْره وعفافه، وكمال دِينه، واستقرار نفسه، وسلامة خواطره... فلذا كان الزواج - إلى جانبِ أنه متعةٌ مشروعة - أمرًا أساسيًّا، وحاجة أصلية مِن حاجات الإنسان في الحياة، يصعُب عليه التخلِّي عنها إلاَّ لشوق غلاَّب محرق، أو لتعلُّق شديد بعزيز غالٍ على النفس جدًّا، يفوق تعلُّقَها بالزواج ويزيد عليه؛ تملُّكًا للقلب، واستيلاءً على الخاطر: مثل طلب العلم في بعض العلماء، والقيام بالجهاد عند بعض المجاهدين، وتحصيل عليا الرغائب لدَى ذوي النفوس الطماحة الشماء"[126].
فهذه الأمور قد اجتمعتْ في الإمام ابن تيمية، مضافًا إليها دورُه الدعوي والإصلاحي، وتربية النشء، ودَوْره الجهادي، وتعرُّضه للحبس والترسيم، وتنقُّله من مكان لآخر، واغترابه عن الوطن والأهل، مجاهدًا وداعيًا ومعتقلاً، ومدافعًا عن المسلمين وديارهم، وهذه الأمور الآنِفة الذِّكْر أو بعضها، جعلتِ الإمامَ ابن تيمية وغيرَه من كبار العلماء مِن صالحي هذه الأمة يعزفون عن الزواج، لا رغبةً عنه ورهبنة؛ بل تعتبر مثل "حالهم هذه - والله أعلم - أنها مسلكٌ شخصي فردي، اختاروه لأنفسهم مايزوا فيه ببصيرتهم الخاصَّة بيْن خير الزواج وخير العلم الذي يقومون به، فرجح لديهم خيرُ العلم على خير الزواج لهم، فقدَّموا مطلوبًا على مطلوب، ولم يَدْعُوا أحدًا من الناس إلى الاقتداءِ بهم في هذا المسلَك، ولا قالوا للناس: التبتُّل للعلم أفضلُ من الزواج، ولا ما نحن عليه أفضلُ مما أنتم عليه"[127]، بل إنهم ترَكوا الزواج وهم عالِمون بأحكامه، وبما دلَّت عليه الشريعة، ولهم من العِلم ما يرْقَى بهم ويسمو عن أن يفعلوا شيئًا جاهلين بأحكامه، وكيف يكون هذا؟! ولهم في مصنَّفاتهم كلامٌ رصين، متينٌ موزون، أبانوا فيه أحكامَه الشرعية؛ بل وتكلَّموا على سائر الموضوعات التي لها علاقةٌ بالزواج، سواء من قريب أو من بعيد، بمعرفةٍ فاحصة، وعِلم غزير، وفَهْم ثاقب مستنير، والإمام ابن تيمية له مصنَّف كامل كله فتاوٍ عن النِّكاح، صفحاته 362 صفحة[128].
كما أنَّ لـه كلامًا كثيرًا متناثرًا في فتاواه في الأمور المتعلِّقة بالزواج؛ من خِطبة وعِشرة، وطلاق وخُلع و... في مواضع متعدِّدة، تدل على رسوخ قدمِه في العلم، ومدى تبحُّره في العلم، وأنه إنما ترَكَه اختيارًا منه، وإيثارًا للعلم والجهاد، والدعوة والتربية والإصلاح، ومَن راجع فتاواه[129] وجَد علمًا غزيرًا، واطلاعًا على سائر المذاهب الفقهية، مع ذِكْر الأدلة والاحتجاج بها بما يَزيدها بهاءً، ومما يدلُّ على ذلك قوله: "الامتناع من فِعْل المباحات مطلقًا، كالذي يمتنع من أكْل اللحم... ويمتنع من نِكاح النساء، ويظن أنَّ هذا من الزهد، فهذا جاهلٌ ضالٌّ من جنس زهَّاد النصارى، قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة: 87 - 88]، نزلتْ هذه الآية بسبب أنَّ جماعةً من الصحابة كانوا قد عزَموا على ترْك أكْل الطيِّبات كاللحم ونحوه، وترْك النكاح، وفي الصحيحين[130]: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما بال رجالٌ يقول أحدُهم: أمَّا أنا فأصوم ولا أُفطر، ويقول الآخر: أمَّا أنا فأقوم ولا أنام، ويقول الآخَر: أما أنا فلا آكُل اللحم، لكني أصوم وأُفطر، وأقوم وأنام، وأتزوَّج النساء، وآكُل اللحم، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني))... ومن حرَّم الطيبات التي أحلَّها اللهُ من الطعام واللِّباس والنِّكاح، وغير ذلك، واعتقد أنَّ ترْك ذلك مطلقًا هو أفضلُ من فِعله لمَن يستعين به على طاعة الله، كان معتديًا معاقبًا على تحريمه ما أحلَّ الله ورسولُه، وعلى تعبُّده لله - تعالى - بالرهبانية، ورغبته عن سُنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما فرَّط فيه من الواجبات، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب"[131].
وقد قرَّر العلماء أنَّ مجرَّدَ الترْك لا يستلزم التحريم، يقول الإمام الشاطبي: "والتارِك لأمر لا يلزم أن يكون محرِّمًا له، فكم من رجل ترَك الطعام الفلاني أو النِّكاح؛ لأنَّه في [ذلك] الوقت لا يشتهيه، أو لغير ذلك من الأعذار، حتى إذا زال عذرُه تناول منه"[132]، ثم ساق أدلة على ذلك، ووضَّح أن الترْك ليس للتحريم، بل لشيءٍ آخرَ، مثل: "أن يكون مجرَّدَ ترْك لا لغرض؛ بل لأنَّ النفس تكرهه بطبعها، أو لا تكرهه حتى تستعمله، أو لا تجد ثمنَه، أو تشتغل بما هو آكَد وما أشبهَ ذلك"[133].
وأمرُ المفاضلة بيْن التخلِّي للعبادة أم النكاح، إنما هو في المقام الأول يرجِع إلى نفْس الشخص، ومما لا شكَّ فيه أنَّ للزواج والأهل والأولاد تبعاتٍ وشغلاً عن غيرهم، ولو أُضيف إلى ذلك علمٌ وجهاد، ودعوةٌ وإصلاح، وتربية للمستفيدين، ورعاية لهم، وحبس واعتقال وترسيم، وإبعاد عن الوطن والأهل والأصحاب، ممَّا يجعل هذا الأمر يتردَّد من شخص لآخرَ، وجوبًا أو استحبابًا، وكذلك هل فعْلُه أفضل أو تركه؟
كما قال الإمام النووي: "أمَّا الأفضل من النِّكاح وترْكه، فقال أصحابنا [أي: الشافعية]: الناس فيه أربعة أقسام: قسم تتوقُ إليه نفسُه ويجد المؤنَ، فيستحبُّ له النكاح، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن، فيكره له، وقسم تتوق ولا يجد المؤن، فيكره لـه، وهذا مأمور بالصوم لدفْع التوقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق، فمذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أنَّ ترْك النكاح لهذا والتخلِّي للعبادة أفضلُ، ولا يُقال: النكاح مكروه، بل ترْكه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعضِ أصحاب الشافعي وبعضِ أصحاب مالك: أنَّ النكاح لـه أفضل... [وقال:] وأما قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فمَن رغِب عن سُنَّتي، فليس مني)) فمعناه: مَن رغِب عنها؛ إعراضًا عنها غيرَ معتقدٍ لها على ما هي عليه، والله وأعلم"[134].
وعلى هذا؛ "فالحُكم على شخص واحد بأنَّ الأفضل له النِّكاح أو العزوبة مطلقًا، قصورٌ عن الإحاطة بمجامِع هذه الأمور [يعني: آفات النِّكاح أو فوائده]، بل تُتَّخذ هذه الفوائد والآفات معتبرًا [أي: مقياسًا] ومحكًّا، ويُعرَض المرء على نفسه: فإنِ انتفت في حقِّه الآفات، واجتمعت الفوائدُ، بأن كان له مالٌ حلال، وخُلُق حَسن، وجِدٌّ في الدِّين تام، لا يشغله النِّكاح عن الله - تعالى - وهو مع ذلك شابٌّ محتاج إلى تسكين الشهوة، ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزِل، والتحصُّن بالعشيرة، فلا يُمارَى أنَّ النكاح أفضل له، مع ما فيه من السعي في تحصيل الولد، فإنِ انتفت الفوائد، واجتمعت الآفات، فالعزوبة أفضل له"[135].
وممَّا تقدَّم يتضح أنَّ الإمام ابن تيمية ما ترَك النكاح رغبةً عنه ورهبنة، ومصادمة للفِطرة، أو تحريمًا له؛ بل عزوفُه اختيارٌ منه؛ لأنَّه آثَرَ غيرَه عليه من عِلم وجهاد، ودعوة وإصلاح، وتربية للمستفيدين على اختلاف منازلهم وعلومهم ورعايتهم، يُضافُ إلى ذلك ما ابتُلي به مِن حبس واعتقال واغتراب؛ لذا ما كان عزوفُه رغبةً عنه؛ لأنَّه يعرف قدرَه ومنزلته في الشريعة، وهو مِن أساطين العلماء الداعين إلى نشْرها وتطبيقها، وكانتْ حياته كلُّها مسخَّرةً لنصرتها، والذبِّ عنها، وإبراز مقاصدها، ووجوب الاعتصام بها.
وفاته ورثاؤه:
وفاته[136]: تُوفِّي الإمام ابن تيمية في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوسًا بها، وحضَر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِن لهم في الدخول عليه، ثم انصرفوا، واقتصر الجلوسُ على مَن يُغسِّله، أو يساعد على تغسيله، وكانوا جماعةً من أكابر الصالحين، وأهل العلم كالمِزِّيِّ وغيره، وما فُرغ من تغسيله حتى امتلأتِ القلعة وما حولها، واجتمع الخَلْق بالقلعة والطريق إلى الجامِع، ولمَّا سَمِع الناس بموته لم يبقَ في دمشق مَن يستطيع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك، وضجَّ الناس بالبكاء والثناء والترحم، وأُخرج الشيخ إلى جامع بني أُميَّة؛ ظنًّا أنه يسع الناس، فصُلِّي عليه في الجامع، وبقي كثير من الناس خارجَ الجامع، ثم حُمل على أيدي الكبراء والأشراف، ومَن حصل له ذلك مِن جميع الناس، ووضع بأرْضٍ فسيحة متسعة الأطراف، وصلَّى عليه الناس، وأخرج النعش، واشتد الزحام، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب، والترحم عليه والثناء والدعاء له، وصار النعش على الرؤوس، تارةً يتقدم، وتارةً يتأخر، وتارة يقف حتى يمرَّ الناس، وصرخ صارِخ: هكذا تكون جنائز أئمَّة السُّنة، فبكى الناس بكاءً كثيرًا، ووضعت الجنازة فدُفِن في مقبرة الصوفية، وكان دفنه قبلَ العصر بيسير، وحُرز مَن حضر من النساء بـ(15) ألفًا، والرِّجال ما بين (60 - 200) ألف، ولم يُرَ لجنازة أحدٍ ما رُؤي لجنازته مِن الوقار والهَيْبة، والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها، وتوقيرهم إيَّاها، وتفخيمهم أمْر صاحبها، وثنائهم عليه، إلاَّ ما كان للإمام أحمد بن حنبل؛ لِمَا كان عليه من العِلم والعمل، والزهادة والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والاشتغال بالآخرة، وكانت وفاته قد ابتدأتْ بمرَضٍ يسير.
ولقد فاضتْ رُوح هذا الإمام إلى بارئها، وهو على حاله مجاهدًا في ذات الله - تعالى - صابرًا محتسبًا، لم يجبن ولم يهلَعْ، ولم يضعف ولم يتتعتع؛ بل كان إلى حين وفاته مشتغلاً بالله عن جميع ما سواه، وإنَّ مِن حُسْن الختام لهذا الإمام أن يموتَ بعد انتهائه من قراءة قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54 - 55][137].
وأما رثاؤه، فموتُ الإمام ابن تيمية جعَل كثيرًا من الفضلاء والعلماء يَرْثُونهُ بقصائدَ متعدِّدة، وإنَّما قيلت هذه القصائد في حقِّ الشيخ من قِبل قائليها؛ "لِمَا وجب للشيخ - رضي الله عنه - عليهم من الحقِّ في إرْشادهم إلى الحقِّ والمنهج المستقيم، بالأدلة الواضحة الجلية، النقلية والعقلية، خصوصًا في أصول الدين"[138]، ولقد قال الإمام ابنُ فضْل الله العمري[139] : "رثاه جماعاتٌ من الناس بالشام ومصر، والعراق والحجاز، والعرب من آل فضل"[140] بِمَراثٍ كثيرة، نثرًا ونظمًا، وقد قال الإمامُ ابن حجر العسقلاني: "ورَثَاه شهابُ الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة... ورثاه زَينُ الدين ابن الوردي بقصيدة لطيفة طائية"[141].
أما قصيدة الإمام ابن فضْل الله العمري، فمنها[142]:
أَهَكَذَا فِي الدَّيَاجِي يُحْجَبُ الْقَمَرُ
وَيُحْبَسُ النَّوْءُ حَتَّى يَذْهَبَ الْمَطَرُ
طَرِيقُهُ كَانَ يَمْشِي قَبْلَ مِشْيَتِهِ
بِهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ
مِثْلُ الأَئِمَّةِ قَدْ أَحْيَا زَمَانَهُمُ
كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ وَهْوَ مُنْتَظِرُ
مِثْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةٍ فِي السِّجْنِ مُعْتَقَلٌ
وَالسِّجْنُ كَالْغِمْدِ وَهْوَ الصَّارِمُ الذَّكَرُ
فِي يُوسُفٍ فِي دُخُولِ السِّجْنِ مَنْقَبَةٌ
لِمَنْ يُكَابِدُ مَا يَلْقَى وَيَصْطَبِرُ
يَا لَيْتَ شِعْرِيَ هَلْ فِي الْحَاسِدِينَ لَهُ
نَظِيرُهُ فِي جَمِيعِ الْقَوْمِ إِنْ ذُكِرُوا؟!
هَلْ فِيهِمُ صَادِعٌ لِلْحَقِّ مَقْوَلَةٌ
أَوْ خَائِضٌ لِلْوَغَى وَالْحَرْبُ تَسْتَعِرُ
قَدَّمْتَ لِلَّهِ مَا قَدَّمْتَ مِنْ عَمَلٍ
وَمَا عَلَيْكَ بِهِمْ ذَمُّوكَ أَوْ شَكَرُوا
وَكَيْفَ تَحْذَرُ مِنْ شَيْءٍ تَزِلُّ بِهِ
أَنْتَ التَّقِيُّ فَمَاذَا الْخَوْفُ وَالْحَذَرُ؟
وأما قصيدة الإمام ابن الوردي، فمنها[143]:
قُلُوبُ النَّاسِ قَاسِيَةٌ سِلاَطُ
وَلَيْسَ لَهَا إِلَى الْعُلَيَا نَشَاطُ
أَيَنْشَطُ قَطُّ بَعْدَ وَفَاةِ حَبْرٍ
لَنَا مِنْ نَثْرِ جَوْهَرِهِ الْتِقَاطُ
تَقِيُّ الدِّينِ ذُو وَرَعٍ وَعِلْمٍ
خُرُوقُ الْمُعْضِلاَتِ بِهِ تُخَاطُ
تُوُفِّيَ وَهْوَ مَحْبُوسٌ فَرِيدٌ
وَلَيْسَ لَهُ إِلَى الدُّنْيَا انْبِسَاطُ
وَحَبْسُ الدُّرِّ فِي الْأَصْدَافِ فَخْرٌ
وَعِنْدَ الشَّيْخِ بِالسِّجْنِ اغْتِبَاطُ
فَيَا لَلَّهِ مَا قَدْ ضَمَّ لَحْدٌ
وَيَا لَلَّهِ مَا غَطَّى الْبَلاَطُ
هُمُ حَسَدُوهُ لَمَّا لَمْ يَنَالُوا
مَنَاقِبَهُ فَقَدْ مَكَرُوا وَشَاطُوا
وَلَكِنْ يَا نَدَامَةَ حَابِسِيهِ
فَشَكُّ الشِّرْكِ كَانَ بِهِ يُمَاطُ
أَلَمْ يَكُ فِيكُمُ رَجَلٌ رَشِيدٌ
يَرَى سِجْنَ الإِمَامِ فَيُسْتَشَاطُ
سَيَظْهَرُ قَصْدُكُمْ يَا حَابِسِيهِ
وَنِيَّتُكُمْ إِذَا نُصِبَ الصِّرَاطُ
فَهَا هُوَ مَاتَ عَنْكُمْ وَاسْتَرَحْتُمْ
فَعَاطُوا مَا أَرَدْتُمْ أَنْ تُعَاطُوا
وَحُلُّوا وَاعْقِدُوا مِنْ غَيْرِ رَدٍّ
عَلَيْكُمْ وَانْطَوَى ذَاكَ الْبِسَاطُ
وهناك الكثيرُ والكثير من قصائد الرثاء[144]، ممَّا يدلُّ على أنَّ هذا الإمام "مِن كبار الأئمة المحقِّقين، وعلماء الأمَّة العاملين الراسخين، وأكابِر الأولياء العارفين"[145]، وهي مِن أكبر الأدلَّة على علوِّ كعْبه، ورِفْعة شأنه؛ لأنَّه عاش داعيًا مجاهدًا في سبيل نُصْرة الشريعة المطهَّرة.
وحسنُ الثناء والذِّكْر بعد الموت، منحةٌ مِن الله يهبها مَن يشاء مِن عباده، وقد سأله نبيُّ الله إبراهيم - عليه السلام - وأُعطيها، كما قال - تعالى حاكيًا - قوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84]، وقد امتنَّ الله على أنبيائه - عليهم السلام - بذلك فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم: 50].
والحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد، وآله وصحْبه، والتابعين كلَّما ذَكَره الذاكرون، أو غفل عن ذِكْره الغافلون.
ـــــــــــــــــــــ
[1] الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (13/241)، الإمام الذهبي، تذكرة الحفَّاظ، (4/1496)، الإمام ابن الوردي، تتمة المختصر، (2/406)، الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 14)، الإمام ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة، (1/144)، الإمام الكتبي، فوات الوفيات، (1/164)، الإمام ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، (6/80)، الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 51 - 52)، الإمام الشوكاني، البدر الطالع، (1/63)، الشيخ صِدِّيق حسن خان، التاج المكلل، (ص: 420)، الإمام الألوسي، غاية الأماني، (ص: 154)، الأستاذ الزِّركلي، الأعلام، (1/144)، الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، العلماء العزاب، (ص: 164)، الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مقدمة جامع الفتاوى، (1 ص: أ)، د. بكر بن عبدالله أبو زيد، المدخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، (ص: 15).
[2] هذا اللقب قد "أطلقه العلماء السابقون على كلِّ مَن حاز درجةً كبيرة عالية في العِلم بالكتاب والسنة، وفي الفضل والصلاح والقدوة، وكان مرجعَ المسلمين في العلم وشؤون الدِّين، وهو بهذا المعنى دار في كتب المحدِّثين والمؤرخين والرجال والتراجم"؛ الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، العلماء العزاب، (ص: 46 تعليق 1)، ويُنظر أيضًا كتاب: الرد الوافر؛ للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق الشيخ زُهير الشاويش، (ص 51 - 56)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد؛ للعلامة ابن بدران الدمشقي الحنبلي (ص: 223)، وللإمام السخاوي كتاب له سمَّاه "الجواهر" تكلم فيه على لَقَب شيخ الإسلام؛ فليراجع.
[3] إنَّ لقب تيمية: إنما هو لجَدِّه محمد بن الخضر، وسببه قولان: "فقيل: إنَّ جَده محمد بن الخضر حجَّ على درْب تيماء [بلدة بين الشام ووادي القُرى في طريق حجاج الشام]، فرأى هناك طفلةً فلما رجع وجد امرأته قد ولدتْ له بنتًا فقال: يا تيميَّة - يا تيمية، وقيل: إنَّ جده محمدًا كانت أمُّه تسمَّى تيمية، وكانت واعظةً، فنُسب إليها، وعرف بها"؛ الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 52) بتصرف.
[4] (ص: 32) الكلام مفصلاً عن أسباب عزوفه عن الزواج.
[5] صحيح: رواه الإمام أحمد في مسنده (6/151)، 186)، وصحَّحه الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، (1 ص 45)، رقم (132).
[6] رواه البخاري، (16/479 - 480 فتح) رقم (6203)، وبوَّب عليه الإمام البخاري في كتاب الأدب بابًا بعنوان: الكُنية للصبي وقبل أن يُولَد للرجل، ورواه مسلم (4/1692 - 1694) رقم (2150).
[7] الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (13/241)، (14/136)، الإمام ابن الوردي، تتمة المختصر، (2/408)، الإمام ابن حجر، الدرر الكامنة، (1/144)، الإمام الشوكاني، البدر الطالع، (1/63)، الإمام صدِّيق حسن خان، التاج المكلل، (ص: 240)، الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 17)، الإمام الذهبي، تذكرة الحفاظ، (4/1496)، الإمام محمد بن شاكِر الكتبي، فوات الوفيات، والذيل عليها، تحقيق د. إحسان عباس (1/74)، الزِّركلي، الأعلام، (1/144)، د. بكر بن عبدالله أبو زيد، آثار شيخ الإسلام، (ص: 15).
[8] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 17، 19) بتصرف.
[9] الإمام ابن عبدالهادي، العقود الدرية، (ص: 6).
[10] ينظر، الإمام ابن تيمية، الأربعون التيمية، شرح وتصحيح وتخريج صلاح أحمد السامرائي، (ص: 55، 57، 58، 59)، ينظر الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (18/76 - 121).
[11] الإمام الشيخ زين الدين أبو العباس أحمد بن عبدالدايم بن نعمة بن أحمد المقدسي، أحد شيوخ الحنابلة، ومِن علماء الحديث، توفي سنة 668هـ.
[12] الإمام الشيخ الزاهد، الخطيب، قاضي القضاة، شيخ الإسلام عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي الجَماعيلي، انتهتْ إليه رئاسة العِلم في زمانه، توفي سنة 682هـ.
[13] الإمام الفقيه المحدِّث، مسند الوقت، فخر الدين، أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدالواحد السَّعدي، المقدسي الصالحي، كان إمامًا فاضلاً، مجتهدًا دَيِّنًا صالحًا خيِّرًا، علَّم الأكابر، تُوفي سنة 690هـ.
[14] الفقيه المحدِّث الأثري، الزاهد عفيف الدِّين، أبو محمد عبدالرحيم بن محمد بن أحمد بن فارس العلثي، ثم البغدادي، كان ذا عِلم وصَلاح، وأفاد خلْقًا كثيرًا، تُوفي في طريق مكة سنة 685هـ.
[15] الشيخ الفقيه، زين الدين أبو البركات المنجا بن عثمان بن أسعد بن أسعد بن المنجا بن بركات التيوخي الدمشقي، كان ذا معرفةٍ وعِلم بالفقه والأصول، والتفسير والنحو، من تصانيفه شرْح المقنع، وتفسير للقرآن الكريم، تُوفي سنة 695هـ.
[16] الفقيه المحدِّث النحوي، شمس الدين، أبو عبدالله محمد بن عبدالقوي بن بدران بن عبدالله المقدسي المداوي، برَع في العربية واللُّغة، وكان حسنَ الدِّيانة، كثيرَ الإفادة، توفي سنة 699هـ.
[17] الشيخ الفقيه، شرَف الدين، أحمد بن الشيخ كمال الدِّين أحمد بن نعمة بن أحمد المقدسي الشافعي، كان خطيبَ دمشق ومفتيَها، وشيخ الشافعية فيها، برَع في الفقه والأصول والعربية، كان متواضعًا ناسكًا، ثاقبَ الذهن، تُوفي سنة 694هـ
[18] الفقيه العابد الزاهد، تقيُّ الدين، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي الصالحي الحنبلي، رَوى عنه خلْقٌ كثير، تُوفي سنة 692هـ.
[19] الشيخ العالِم الأديب، شمس الدين أبو عبدالله بن محمَّد بن إسماعيل بن أبي سعد بن علي بن منصور الشيباني، الآمدي ثم المصري، كان فاضلاً، وذا معرفة بالحديث، والتاريخ والسير، والنحو واللغة، تُوفي سنة 704هـ.
[20] الشيخة الصالحة، ستُّ الدار، بنت عبدالسلام بن أبي محمد ابن تيميَّة، عمَّة شيخ الإسلام، حيث روى عنها الحديث، تُوفيت سنة 686هـ
[21] الشيخة الصالحة، أمُّ الخير، ستُّ العرب بنت يحيى بن قايماز بن عبدالله، التاجية الدمشقية، روَى عنها الحديث، تُوفِّيت سنة 684هـ.
[22] الشيخة الجليلة الأصيلة، أمُّ العرَب، فاطمة بنت أبي القاسم بن عساكر، روَى عنها الحديث، تُوفِّيت سنة 683هـ.
[23] الصالِحة العابدة المجتهدة، الشيخة أمُّ أحمد، زينب بنت مكي بن علي بن كامِل الحرَّانية، يزدحم الطلبةُ عليها؛ لعلمها وصلاحها، روَى عنها الحديث، ت 688 هـ.
[24] الشيخة الصالحة، أمُّ محمَّد زينب بنت أحمد بن عمر بن كامل، تفرَّدتْ وارْتحل إليها الطلبة، روَى عنها الحديث، ت 722 هـ.
[25] الإمام الشيخ محمَّد بن أحمد بن عبدالهادي بن قُدامة، كان عالِمًا صالحًا، له مؤلَّفات منها: الصارم المنكي، والعقود الدرية، توفي سنة 724هـ.
[26] الشيخ الزاهد، والعالِم العامل، عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي، كان ذا صلاح وعبادة، قال عنه شيخه ابن تيمية: جنيد وقتِه، له مصنَّفات منها: ملخَّص السيرة النبوية، وشرح منازل السائرين، ورِسالة ينصح فيها أصحابَ الإمام ابن تيمية، تُوفي سنة 711هـ.
[27] الأستاذ الشيخ زين الدين عمر بن المظفر بن أبي الفوارس بن الوردي، كان على عِلم وصلاح، وبلغ الذروة العليا، والطبقة القصوى في الشِّعر، ينتهي نسبُه إلى الصِّدِّيق - رضي الله عنه - له مصنَّفات، منها: تتمة المختصر، توفي سنة 749هـ.
[28] - الشيخ أبو عبدالله بن رشيق المغربي، كان على معرفة تامَّة بخط الإمام ابن تيمية وكتاباته، حتى إنه يشكل عليه أحيانًا فيدعو تلميذَه أبا عبدالله لحلِّه؛ لأنَّه كان أبصر من الشيخ بخطِّه، نسخ كثيرًا من كُتب شيخه، تُوفي سنة 749هـ.
[29] الإمام الفقيه العلاَّمة، الشيخ محمد بن مفلِح بن مفرح المقدسي، كان واسعَ العلم، ذا عبادة، ومِن أعلم الناس بمذهب الإمام أحمد في زمانه، وكان يقول له شيخُه ابن تيمية: أنت مفلِح، له مؤلفات قيِّمة، منها: الفروع، والآداب الشرعية، توفي سنة 763هـ.
[30] رواه البخاري (10/517 - 518 فتح)، رقم (3650)، ومسلم (4/1962- 1964) رقم (2533-2535).
[31] الإمام المبجَّل إمام أهل السُّنة والجماعة، الزاهد الصابر، الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، إليه يُنسب المذهب الحنبلي، له كتب متعدِّدة قيِّمة، منها: المسند، والزهد، والورع، والأشربة، توفي سنة 241هـ.
[32] الإمام ابن عبدالهادي، العقود الدرية، (ص: 170) بتصرف، الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (3/161).
[33] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (3/194).
[34] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 33) بتصرف.
[35] الإمام ابن قدامة المقدسي في مقدمة كتابه المغني (1/64)، وفي لمعة الاعتقاد، (ص: 178).
[36] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (30/80) بتصرف.
[37] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (21/290).
[38] الشيخ محمد بن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، (1/75)، الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، العلماء العزاب، (ص: 171)، الإمام ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة، (1/151)، الإمام ابن الوردي، تتمة المختصر، (ص: 408)، 412)، الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (14/137).
[39] الإمام ابن عبدالهادي، العقود الدرية، (ص: 294).
[40] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 35).
[41] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 85) بتصرف.
[42] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 59).
[43] نفس المرجع السابق، (ص: 59، 61)، بتصرف كبير.
[44] الإمام ابن القيم، مدارج السالكين، تحقيق عماد عامر، (2/240).
[45] الحافظ البزار، الأعلام العلية، ص (41)، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (5/196)، ورواه الإمام مسلم في صحيحه (4/2074) رقم (2699).
[46] هذا من كلامي حكاية عن الحافظ البزار.
[47] نفس المرجع السابق، ص 53 - 58 بتصرف.
[48] نفس المرجع السابق، ص48 بتصرف.
[49] نفس المرجع السابق، ص49 بتصرف.
[50] د. عائض القرني، على ساحل ابن تيمية ص (54).
[51] شيخ الإسلام ابن تيمية، الرسالة التدمرية، تحقيق زهير الشاويش، ص (139)، الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (1/85).
[52] الإمام ابن القيم، الوابل الصيب، ص (70 - 71)، تحت الفائدة السادسة عشرة، مرجع سابق.
[53] معرفة الله ومحبته، والطمأنينة بذِكْره، والفَرَح والابتهاج بقُرْبه، والشَّوق إلى لقائه.
[54] أي: مَن لم يتَّصفْ بها في الدنيا.
[55] الإمام ابن القيم، الوابل الصيب، (ص: 79)، الإمام ابن القيم, مدارج السالكين (1/365).
[56] الإمام ابن القيم، الوابل الصيب، (ص: 79).
[57] يعني بذلك: إيمانه وعِلْمه.
[58] نفس المرجع السابق، الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، العلماء العزاب، (ص: 177).
[59] الإمام ابن تيمية، الشيخ محمد بن عبدالوهاب، مجموعة التوحيد، الإمام ابن تيمية، رسالة العبودية، تصحيح الشيخ عبدالله الأنصاري، (ص: 385).
[60] الإمام ابن القيم، الفوائد، تحقيق محمد عبدالقادر الفاضلي، (ص: 254).
[61] الإمام ابن تيمية، التفسير الكبير، (2/330).
[62] الإمام ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، (1/92).
[63] نفس المرجع السابق، (ص: 93).
[64] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 29).
[65] نفس المرجع السابق، (ص: 61).
[66] نفس المرجع السابق، (ص: 66).
[67] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (10/39).
[68] نفس المرجع السابق، (4/41).
[69] نفس المرجع السابق (10/40).
[70] نفس المرجع السابق (1/80).
[71] نفس المرجع السابق، (10/85).
[72] الإمام ابن القيم، مدارج السالكين، (1/347).
[73] الإمام ابن القيم، مفتاح دار السعادة، (1/443).
[74] نفس المرجع السابق، (1/304).
[75] الإمام ابن الوردي، تتمة المختصر، ص 408 بتصرف.
[76] الشيخ محمد أبو زهرة، ابن تيمية، ص29 - 30 بتصرف.
[77] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 28 - 29) بتصرف.
[78] نفس المرجع السابق، (ص: 29).
[79] نفس المرجع السابق، (ص: 21).
[80] الشيخ محمد أبو زهرة، ابن تيمية، (ص: 36).
[81] نفس المرجع السابق.
[82] الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (14/15).
[83] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 62 - 63).
[84] الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (13/320)، بتصرف.
[85] الحافظ البزار، الأعلام العلية، ص63 - 64 بتصرف.
[86] الإمام ابن عبدالهادي، العقود الدرية، ص148 - 149 بتصرف.
[87] الشيخ محمد أبو زهرة، (ص: 93).
[88] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 30) بتصرف.
[89] نفس المرجع السابق، (ص: 21).
[90] الإمام الشيخ الزاهد عماد الدين أبو العبَّاس أحمد بن إبراهيم الواسطي، المعروف بابن شيْخ الحزامين.
[91] الشيخ الواسطي، التذكِرة والاعتبار، (ص: 28).
[92] الشيخ محمد أبو زهرة، ابن تيمية، ص439 - 440.
[93] نفس المرجع السابق، ص448.
[94] الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، العلماء العزاب، ص(168)، الشيخ ابن الوردي، تتمة المختصر، (2/409)، الإمام ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، (6/81.
[95] نفس المرجع سابق، ص94.
[96] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، ص(56).
[97] نفس المرجع السابق، ص62.
[98] الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، العلماء العزاب، ص(167).
[99] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، ص(59).
[100] الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (14/137).
[101] الإمام ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، (6/82).
[102] نفس المرجع السابق، (ص: 84).
[103] الإمام الشيخ قاضي القضاة أبو عبدالله محمَّد بن عثمان بن أبي الحسن الأنْصاري الحنفي، تولَّى قضاء مصر والشام، توفي سنة 728 هـ.
[104] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 56).
[105] نفس المرجع السابق، (ص: 56 - 57).
[106] الإمام الحافظ الفقيه، الشيخ زين الدين أبو الفَرج عبدالرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي، ثم الدمشقي الحنبلي، كان ذا عبادة وصلاح، وله مؤلَّفات قيِّمة سارتْ بها الركبان، منها: "جامع العلوم والحِكم"، و"شرح لصحيح مسلم"، و"الذيل على طبقات الحنابلة"، تُوفِّي سنة 795هـ.
[107] الإمام ابن رجب الحنبلي، الذيل على طبقات الحنابلة، (2/387).
[108] الإمام الحافِظ، الفقيه المفسِّر، أمير المؤمنين في الحديث، شيخ الإسلام، أبو الفَضْل، شِهاب الدِّين أحمد بن علي بن محمَّد بن حجر العسقلاني، صاحِب اليد الطُّولَى في التأليف والتصنيف، ومؤلَّفاته قيِّمة، ومليئة بالفوائد، منها: فتح الباري، وهو من أجلِّها، ومنها: التلخيص الحبير، والدُّرر الكامنة، (وفيها هو عن الإمام ابن تيمية ناقل، وليس بقائل، أما قوله وثناؤه العطِر، ففي مقدِّمة الرد الوافِر، وفي فتح الباري)، توفي سنة 852هـ
[109] الإمام ابن حجر، الدُّرر الكامنة، (1/ 144 - 145).
[110] الإمام السيوطي، صوْن المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، تحقيق د. علي النشَّار، السيدة سعاد علي عبدالرازق، سلسلة إحياء التُّراث الإسلامي - مجمع البحوث الإسلامية، (ص: 33).
[111] الإمام المجتهد الفقيه المحدِّث، الشيخ محمَّد بن علي بن محمَّد بن عبدالله الشوكاني، من أكابِر علماء اليمن، صاحِب التصانيف النافعة، منها: نيل الأوطار، وشرْح الصدور، والبدر الطالع، وله فتاوٍ كثيرة، تُوفِّي سنة 1250هـ.
[112] الإمام الشوكاني، البدر الطالع، (1/63).
[113] الشيخ الفقيه الأصولي، محمَّد أحمد أبو زهرة، مِن أكبر علماء الشريعة الإسلامية في وقْته، له مشاركة في كثير من العلوم، مؤلَّفاته تزيد على 40 كتابًا، فيها تراجم لبعض الأئمَّة، وبعض الرسائل في الوقْف والمواريث والمجتمع، وله في أصول الفقه، تُوفِّي سنة 1394هـ.
[114] الشيخ محمد أبو زهرة، ابن تيمية، المقدمة، (ص: 4).
[115] نفس المرجع السابق، (ص: 448،450، 507 - 508).
[116] الإمام الفقيه الشيخ مرْعي بن يوسف بن أبي بكر بن يوسف الكرمي، ثم المقدسي الحنبلي، من كِبار الحنابلة في عصْره، كان ذا معرفة بالحَديث وعلومه، والعقائد وعلم الكلام، والأدب والشِّعر، أفاد خَلْقًا كثيرًا، وكان له دورٌ في تعليم الناس وإصلاحهم، له رسائلُ في تفسير القرآن وعلومه، وفي اللُّغة، والكواكب الدريَّة في مناقب المجتهد ابن تيمية، تُوفِّي سنة 1033هـ.
[117] الإمام مرْعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 51).
[118] الشيخ محمد أبو زهرة، ابن تيمية، (ص: 49).
[119] الإمام ابن القيم، الوابل الصيب، (ص: 7).
[120] الشيخ محمد أبو زهرة، ابن تيمية، (ص: 49) بتصرف.
[121] الأستاذ فريد الأنصاري، التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، (2/123)، كتاب الأمة - العدد 48، ط1، الدوحة - قطر، رجب 1416هـ، السَّنة الخامسة عشرة.
[122] الشيخ محمد أبو زهرة، ابن تيمية، (ص: 55، 60 - 62) بتصرف.
[123] د. بكر بن عبدالله أبو زيد، المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، (ص: 31 - 37) بتصرف واختصار.
[124] نفس المرجع السابق، (ص: 32 - 37) بتصرف.
[125] رواه البخاري (14/314 فتح) رقم (5066)، ومسلم (2/1018 - 1019) رقم (1400).
[126] الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، (ص282، 284) بتصرف.
[127] نفس المرجع السابق، (ص: 285)، الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، العلماء العزاب، (ص: 19) "المقدمة".
[128] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (32).
[129] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، الفهارس (37/277 - 306).
[130] رواه البخاري (14/ 305 فتح) رقم (5063)، ومسلم (2/1020) رقم (1401).
[131] الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (22/134) بتصرف.
[132] الإمام الشاطبي، الاعتصام، تقديم العلامة السيد رشيد رضا، (1/331).
[133] نفس المرجع السابق، (1/337)، وتنظر "الموافقات"، الإمام الشاطبي، (1/87 - 88).
[134] الإمام النووي، المنهاج في شرح صحيح مسلم، (ص: 869 - 870) بتصرف يسير.
[135] الإمام أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، تخريج الإمام العراقي، (2/32 - 33).
[136] الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (14/135 - 136)، الإمام ابن الوردي، تتمة المختصر، (2/406)، الإمام ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، (6/85)، الإمام ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة، (1/149)، الإمام ابن عبدالهادي، العقود الدرية، (ص: 291)، الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 75 - 77)، الشيخ محمَّد بن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، (1/74)، الإمام ابن رجب الحنبلي، الذيل على طبقات الحنابلة، (2/405 - 407).
[137] الإمام ابن كثير، البداية والنهاية، (14/138)، الإمام ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، (6/86)، الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 174).
[138] الحافظ البزار، الأعلام العلية، (ص: 79).
[139] الإمام الشيخ القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فضل الله العمري الشافعي، من مؤلفاته: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، توفي سنة 749هـ.
[140] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، ص181)، الإمام الألوسي، غاية الأماني، (2/218).
[141] الإمام ابن حجر، الدرر الكامنة، (1/153.
[142] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، ص182 - 187)، الإمام الألوسي، غاية الأماني، (2/218 - 221.
[143] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 187 - 189)، الإمام الألوسي، غاية الأماني، (2/221 - 222)، وهي في كتابه: تتمة المختصر، (2/406 - 407).
[144] ينظر الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 189 - 231)، الإمام الألوسي، غاية الأماني، (2/222 - 240).
[145] الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 233).
المصدر: موقع الألوكة