ولما دعا - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عز وجل استجاب له عبادُ الله من كل قبيلة، فكان حائزَ قصبِ سَبْقِهم صدِّيقُ الأمة وأسبقُها إلى الإسلام أبو بكر - رضي الله عنه -، فآزره في دين الله ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجاب لأبي بكر: عثمانُ بن عفَّان، وطلحةُ بن عبيد الله، وسعدُ بن أبي وقَّاص.
وبادر إلى الاستجابة له - صلى الله عليه وسلم - صدِّيقةُ النساء خديجةُ بنت خُوَيلد، وقامت بأعباء الصدِّيقيَّة، وقال لها: «لقد خشيتُ على عقلي»، فقالت: أبشِر، فوالله لا يُخزِيك الله أبدًا، ثم استدلَّتْ بما فيه من الصفات والأخلاق والشِّيَم على أن من كان كذلك لا يَخْزى أبدًا؛ فعَلِمت بكمال عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة والأخلاقَ الفاضلةَ والشِّيَم الشريفةَ تُناسِبُ أشكالَها من كرامة الله وتأييده وإحسانه، لا تناسب الخِزْيَ والخِذلان، وإنما يناسبه أضدادُها، فمن ركَّبه الله على أحسن الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليق به كرامتُه وإتمامُ نعمته عليه، ومن ركَّبه على أقبح الصفات وأسوأ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبها، وبهذا العقل والصديقية استحقَّتْ أن يُرسِل إليها ربُّها السلامَ منه مع رسولَيه جبريلَ ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وبادر إلى الإسلام علي بن أبي طالب ابنَ ثمان سنين، وقيل: أكثر من ذلك، وكان في كفالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخذه من عمِّه إعانةً له في سنةِ مَحْلٍ.
وبادر زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان غلامًا لخديجة فوهبَتْه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوَّجها، وقَدِم أبوه وعمُّه في فدائه فسألا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يا ابنَ عبد المطلب، يا ابنَ هاشم، يا ابنَ سيِّدِ قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكُّون العاني وتُطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنُنْ علينا وأحسِنْ إلينا في فدائه، قال: «من هو؟» قالوا: زيد بن حارثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فهَّلا غير ذلك؟» قالوا: ما هو؟ قال: «أدعوه فأخيِّرُه، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فواللهِ ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدًا»، قالا: قد زِدتَنا على النَّصَف وأحسنت، فدعاه فقال: «هل تعرف هؤلاء؟» قال: نعم، قال: «من هذا؟» قال: هذا أبي وهذا عمي، قال: «فأنا مَن قد علمتَ ورأيتَ صحبتي لك، فاختَرْني أو اخترهما»، قال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني مكانَ الأب والعمِّ، فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العُبودية على الحرية وعلى أبيك وعمِّك وعلى أهل بيتك؟! قال: نعم، قد رأيتُ من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أخرجه إلى الحِجر فقال: «أشهدكم أن زيدًا ابني يرثني وأرثه»، فلما رأى ذلك أبوه وعمُّه طابت نفوسهما فانصرفا، ودُعي زيدَ بن محمَّدٍ حتى جاء الله بالإسلام فنزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فدُعي يومئذ: زيدَ بن حارثة.
قال معمر في «جامعه» عن الزُّهري: «ما علمنا أحدًا أسلم قبل زيد بن حارثة». وهو الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه أنعم عليه وأنعم عليه رسولُه وسمَّاه باسمه.
وأسلم القَسُّ ورقةُ بن نَوفَل وتمنى أن يكون جَذَعًا إذ يُخرِج رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قومُه. وفي «جامع الترمذي» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه في المنام في هيئة حسنة. وفي حديثٍ آخر: أنه رآى عليه ثيابَ بياضٍ.
ودخل الناس في الدين واحدًا بعد واحدٍ، وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم وسبِّ آلهتهم وأنها لا تضر ولا تنفع، فحينئذٍ شمَّروا له ولأصحابه عن ساق العداوة فحمى الله رسولَه بعمِّه أبي طالب، لأنه كان شريفًا معظَّمًا في قريشٍ، مُطاعًا في أهل مكة، لا يتجاسرون على مكاشفته بشيء من الأذى.
وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دينِ قومه لِما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأمَّلها.
وأما أصحابه، فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرُهم تصدَّوا له بالأذى والعذاب، منهم عمَّار بن ياسر وأمُّه وأهلُ بيته عُذِّبوا في الله. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ بهم وهم يُعذَّبون يقول: «صبرًا يا آل ياسرٍ فإن موعدَكم الجنة».
ومنهم بلال بن رباح، فإنه عُذِّب في الله أشدَّ العذاب، فهان على قومه وهانت عليه نفسه في الله، وكان كلَّما اشتد به العذاب يقول: أحدٌ أحدٌ، فيمر به ورقة بن نوفل فيقول: إي والله يا بلال! أحدٌ أحدٌ، أما والله لئن قتلتموه لأتخذنَّه حنانًا.
زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (3/ 23- 27)