فإن الله سبحانه هو المنفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات، قال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 68]. وليس المراد بالاختيار هاهنا الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار، وهو سبحانه كذلك، ولكن ليس المراد بالاختيار هاهنا هذا المعنى، وهذا الاختيار داخل في قوله: {يخلق} فإنه لا يخلق إلا باختياره، وداخل في قوله: {ما يشاء} فإن المشيئة هي الاختيار. وإنما المراد بالاختيار هاهنا: الاجتباء والاصطفاء، فهو اختيار بعد الخلق، والاختيار العام اختيار قبل الخلق؛ فهو أعم وأسبق، وهذا أخص؛ وهو متأخر، فهو اختيار من الخلق، والأول اختيار للخلق.
وأصح القولين أن الوقف التام على قوله: {ويختار}، ويكون {ما كان لهم الخيرة} [القصص: 68] نفيا، أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده. فكما أنه المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه. فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له؛ وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه.
وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل إلى أن (ما) في قوله: {ما كان لهم الخيرة} [القصص: 68] موصولة، وهي مفعول {ويختار} أي: ويختار الذي لهم الخيرة. وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أن الصلة حينئذ تخلو من العائد، لأن {الخيرة} مرفوع بأنه اسم كان، والخبر {لهم}، فيصير المعنى: ويختار الذي كان الخيرة لهم، وهذا التركيب محال من القول.
فإن قيل: يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا، ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه، أي ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره.
قيل: هذا يفسد من وجه آخر، وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد، فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله مع اتحاد المعنى، نحو قوله تعالى: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} [المؤمنون: 33] ونظائره. ولا يجوز أن يقال: جاءني الذي مررت، ورأيت الذي رغبت، ونحوه.
الثاني: أنه لو أريد هذا المعنى لنصب الخيرة، وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول، فكان يقول: ويختار ما كان لهم الخيرة، أي: الذي كان هو عين الخيرة لهم، وهذا لم يقرأ به أحد البتة، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.
الثالث: أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار، وإرادتهم أن تكون الخيرة لهم، ثم ينفي هذا سبحانه عنهم، ويبين تفرده بالاختيار، كما قال تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون} [الزخرف: 31 - 32]، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه، وأخبر أن ذلك ليس إليهم، بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم، فكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح، فهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره. وهكذا هذه الآية بين فيها انفراده بالخلق والاختيار، وأنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، كما قال تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]، أي: الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره.
الرابع: أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال: {ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} [القصص: 68] ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه حتى ينزه نفسه عنه، فتأمله فإنه في غاية اللطف.
الخامس: أن هذا نظير قوله في الحج: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز}، ثم قال: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور} [الآيات: 73 - 76]. وهذا نظير قوله في القصص: {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} [الآية: 69]، ونظير قوله في الأنعام: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [آية: 124] فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محال اختياره بما خصصها به، لعلمه بأنها تصلح له دون غيرها. فتدبر السياق في هذه الآيات تجده منتظما لهذا المعنى، دائرا عليه، والله أعلم.
السادس: أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون * فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين * وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 65 ــ 68] فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه. وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته، وعلمه سبحانه بمن هو أهل له، لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم، فسبحان الله وتعالى عما يشركون.
زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (1/ 13 - 17)