القسم في سورة العصر

ومن ذلك إقسامه - سبحانه - بـ "العصر" على حال الإنسان في الآخرة، وهذه السورة على غاية اختصارها لها شأن عظيم، حتى قال الشافعي رحمه الله: "لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم".

و"العصر" المقسم به:

قيل: هو الوقت الذي يلي المغرب من النهار.

وقيل: هو آخر ساعة من ساعاته.

وقيل: المراد صلاة العصر.

وأكثر المفسرين على أنه الدهر، وهذا هو الراجح.

وتسمية "الدهر" عصرا أمر معروف في لغتهم، قال:

ولن يلبث العصران: يوم وليلة … إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

و"يوم وليلة" بدل من: العصران.

فأقسم - سبحانه - بـ "العصر" لمكان العبرة والآية فيه، فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدره العزيز العليم، منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبهما واعتدالهما تارة، وأخذ أحدهما من صاحبه تارة، واختلافهما في الضوء، والظلام، والحر، والبرد، وانتشار الحيوان وسكونه، وانقسام "العصر" إلى: القرون، والسنين، والأشهر، والأيام، والساعات وما دونها = آية من آيات الرب - تعالى - وبرهان من براهين قدرته وحكمته.

فأقسم بـ "العصر" الذي هو زمان أفعال الإنسان ومحلها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبه بالمبدأ وهو خلق الزمان والفاعلين وأفعالهم على المعاد، وأن قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المعاد، وأن حكمته التي اقتضت خلق الزمان وخلق الفاعلين وأفعالهم - وجعلها قسمين: خيرا وشرا - تأبى أن يسوي بينهم، وأن لا يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وأن يجعل النوعين رابحين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسان: خاسر، إلا من رحمه الله، فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه، وأمر غيره به. وهذا نظير رده الإنسان إلى أسفل سافلين، واستثنائه الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء المردودين.

وتأمل حكمة القرآن لما قال: {إن الإنسان لفي خسر} ضيق الاستثناء وخصصه، فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. ولما قال: {ثم رددناه أسفل سافلين} وسع الاستثناء وعممه، فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ولم يقل وتواصوا؛ فإن التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله، فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح، فصار في خسر، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين، فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره به، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة؛ وقد يكون فرضا على الأعيان، وقد يكون فرضا على الكفاية، وقد يكون مستحبا.

و"التواصي بالحق" يدخل فيه: الحق الذي يجب، والحق الذي يستحب. و"الصبر" يدخل فيه: الصبر الذي يجب، والصبر الذي يستحب.

فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به، وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.

فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء، وهو - سبحانه - إنما قال: {إن الإنسان لفي خسر}، ومن ربح في سلعة وخسر في غيرها قد يطلق عليه أنه: في خسر، وأنه: ذو خسر، كما قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة"، فهذا نوع تفريط، وهو نوع خسر بالنسبة إلى من حصل ربح ذلك.

ولما قال في سورة "والتين": {ثم رددناه أسفل سافلين} قال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، فقسم الناس في هذين القسمين فقط.

ولما كان الإنسان له قوتان: قوة العلم، وقوة العمل. وله حالتان: حالة يأتمر فيها بأمر غيره، وحالة يأمر فيها غيره = استثنى - سبحانه - من كمل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وانقاد لأمر غيره له بذلك، وأمر غيره به؛ من الإنسان الذي هو في خسر.

فإن العبد له حالتان: حالة كمال في نفسه، وحالة تكميل لغيره.

وكماله وتكميله موقوف على أمرين: علم بالحق، وصبر عليه.

فــانتظمت هذه الآية جميع مراتب الكمال الإنساني، من العلم النافع، والعمل الصالح، والإحسان إلى نفسه بذلك، وإلى أخيه به، وانقياده وقبوله لمن يأمره بذلك.

وقوله تعالى: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} إرشاد إلى منصب الإمامة في الدين، كقوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24]، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

و"الصبر" نوعان:

نوع بالمقدور، كالمصائب.

ونوع بالمشروع. وهذا النوع - أيضا - نوعان:

1 - صبر على الأوامر.

2 - وصبر عن المناهي .

فذاك صبر على الإرادة والفعل، وهذا صبر عن الإرادة والفعل.

فأما النوع الأول من "الصبر" فمشترك بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولا يثاب عليه لمجرده إن لم يقترن به إيمان واحتساب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق ابنته: "مرها فلتصبر ولتحتسب" ، وقال تعالى: {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} [هود: 11]، وقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا} [آل عمران: 125]، وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا} [آل عمران: 120].

فالصبر بدون الايمان والتقوى بمنزلة قوة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى، وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور.

وقال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} [الروم: 60]، فأمره أن يصبر ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم في عدم الصبر؛ فإنهم لعدم يقينهم عدم صبرهم، وخفوا واستخفوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين لما خفوا، ولما استخفوا.

فمن قل يقينه قل صبره، ومن قل صبره خف واستخف.

فالموقن الصابر رزين ملآن، ذو لب وعقل، ومن لا يقين له ولا صبر خفيف طائش، تلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف. والله المستعان.


التبيان في أيمان القرآن - ط عطاءات العلم (1/ 133 - 138)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله