روى ابن ماجه في «سننه» من حديث محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء».
عرق النساء: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ وربما امتد على الكعب. وكلما طالت مدته زاد نزوله، وتهزل معه الرجل والفخذ.
وهذا الحديث فيه معنى لغوي، ومعنى طبي. فأما اللغوي، فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافا لمن منع هذه التسمية وقال: النسا هو العرق نفسه، فيكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنع. وجواب هذا القائل من وجهين:
أحدهما: أن العرق أعم من النسا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو: كل الدراهم أو بعضها.
الثاني: أن النسا هو المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله وموضعه. قيل: وسمي بذلك، لأن ألمه ينسي ما سواه.
وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبي، فقد تقدم أن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - نوعان:
أحدهما: عام بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال.
والثاني: خاص بحسب هذه الأمور أو بعضها. وهذا من هذا القسم فإن هذا خطاب للعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم ولا سيما أعراب البوادي فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة؛ فعلاجها بالإسهال. والألية فيها الخاصتان: الإنضاج والتليين؛ ففيها الإنضاج والإخراج، وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين. وفي تعيين الشاة الأعرابية قلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة كالشيح والقيصوم ونحوهما. وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها، بعد أن يلطفها تغذيه بها ويكسبها مزاجا ألطف منها، ولا سيما الألية. وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم ولكن الخاصة التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن.
وهذا مما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي بالأدوية المفردة، وعليه أطباء الهند. وأما الروم واليونان فيعتنون بالمركبة. وهم متفقون كلهم على أن من سعادة الطبيب أن يداوي بالغذاء فإن عجز فبالمفرد فإن عجز فبما كان أقل تركيبا.
وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة فالأدوية البسيطة تناسبها، وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراض المركبة فغالبها يحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها، فاختيرت لها الأدوية المركبة. والله أعلم.
زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (4/ 97 - 100)