حكم الأخذ من الشعر والأظفار لمن أراد الأضحية

 

باب الرجل يأخذ من شَعَره في ‌العشر وهو يريد أن يضحي

عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان له ذِبْحٌ يَذبَحُهُ فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحِجة فلا يأخُذَنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئًا، حتى يُضَحِّي».

وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بمعناه.

وفي لفظٍ لمسلم: «فلا يمَسَّ من شعره وبَشَره شيئًا».

وفي لفظ لابن ماجه: «فلا يمَسَّ من شعره ولا بَشره شيئًا».

 

قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه:

فقالت طائفة: لا يصح رفعه، وإنما هو موقوف. قال الدارقطني في كتاب «العلل»: ووقَفه عبد الله بن عامر الأسلمي، ويحيى القطان، وأبو ضمرة، عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد. ووقفه عُقَيل على سعيدٍ قولَه. ووقفه يزيد بن عبد الله بن قُسَيط عن سعيد عن أم سلمة قولَها. ووقفه ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أم سلمة قولَها. ووقفه عبد الرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد قولَه. والمحفوظ عن مالك موقوف. قال الدارقطني: والصحيح عندي قول من وقفه.

ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه، منهم مسلم بن الحجاج رواه في «صحيحه» مرفوعًا. ومنهم أبو عيسى الترمذي، قال: هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرّجه في «صحيحه».

ومنهم أبو بكر البيهقي، قال: هذا حديث قد ثبت مرفوعًا من أوجه لا يكون مثلها غلطًا، وأودعه مسلم في كتابه.

وصححه غير هؤلاء. وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وليس شعبة وسفيان بدون هؤلاء الذين وقفوه، ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة، بل هو المعتاد من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «لا يؤمن أحدكم»، «أيعجِز أحدكم»، «أيحب أحدكم»، «إذا أتى أحدكم الغائط»، «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه» ونحو ذلك.

وأما اختلافهم في متنه: فذهب إليه طائفة من التابعين ومن بعدهم، فذهب إليه سعيد بن المسيب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد وغيرهم.

وذهب آخرون إلى أن ذلك مكروه لا محرّم، وحملوا الحديث على الكراهة، منهم مالك وطائفة من أصحاب أحمد، منهم أبو يعلى وغيره.

وذهبت طائفة إلى الإباحة، وأنه غير مكروه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

والذين لم يقولوا به، منهم من أعله بالوقف، وقد تقدّم ضعفُ هذا التعليل. ومنهم من قال: هذا خلاف الحديث الثابت عن عائشة المتفق على صحته: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهَدْيه ويقيم حلالًا، لا يحرم عليه شيء.

قال الشافعي: فإن قال قائل: ما دل على أنه اختيار لا واجب؟ قيل له: روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: «أنا فتلتُ قلائدَ هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعث بها مع أبي بكر، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي».

قال الشافعي: وفي هذا دلالة على ما وصفت، وعلى أن المرء لا يُحْرِم بالبِعثة بهديه؛ يقول: البِعثة بالهدي أكبر من إرادة الأضحية.

ومنهم من رد هذا الحديث بخلافه للقياس، لأنه لا يَحْرُم عليه الوطء واللباس والطِّيب، فلا يحرم عليه حلق الشعر وتقليم الظفر.

وأسعد الناس بهذا الحديث مَن قال بظاهره لصحته وعدم ما يعارضه.

وأما حديث عائشة، فهو إنما يدل على أن من بعث بهديه وأقام في أهله فإنه يقيم حلالًا، ولا يكون مُحرِمًا بإرسال الهدي، ردًّا على من قال: يكون بذلك مُحرِمًا من السلف، ولهذا روت عائشة لمّا حكي لها هذا.

وحديث أم سلمة يدل على أن من أراد أن يضحّي أمسك في العشر عن شعره وظفره خاصة، فأي منافاة بينهما؟ ولهذا أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين: هذا في موضعه، وهذا في موضعه. وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبدَ الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين؟ فقال: هذا له وجه، وهذا له وجه.

ولو قُدِّر بطريق الفرض تعارضهما لكان حديث أم سلمة خاصًّا وحديث عائشة عامًّا، ويجب تنزيل العام على ما عدا مدلول الخاص توفيقًا بين الأدلة، ويجب حمل حديث عائشة على ما عدا ما دل عليه حديث أم سلمة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليفعل ما نهى عنه، وإن كان مكروهًا.

وأيضًا: فعائشة إنما تعلم ظاهرًا ما يباشرها به، أو يفعله ظاهرًا من اللباس والطيب. وأما ما يفعله نادرًا، كقص الشعر وتقليم الظفر، مما لا يُفعل في الأيام العديدة إلا مرة = فهي لم تُخبر بوقوعه في عشر ذي الحجة منه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قالت: «لم يحرم عليه شيء»، وهذا غايته أن يكون شهادة على نفيٍ، فلا يعارِض حديث أم سلمة. والظاهر أنها لم ترد ذلك بحديثها، وما كان كذلك فاحتمال تخصيصه قريب، فيكفي فيه أدنى دليل. وخبر أم سلمة صريح في النهي، فلا يجوز تعطيله.

وأيضًا: فأم سلمة تخبر عن قوله وشرعه لأمته، فيجب امتثاله. وعائشة تخبر عن نفيٍ مستنِدٍ إلى رؤيتها، وهي إنما رأت أنه لا يصير بذلك مُحرِمًا يَحرُم عليه ما يحرم على المحرم، ولم تخبر عن قوله: إنه لا يحرم على أحدكم بذلك شيء، وهذا لا يعارض صريح لفظه.

وأما رد الحديث بالقياس، فلو لم يكن فيه إلا أنه قياس فاسد مصادم للنص لكفى ذلك في رد القياس، ومعلوم أن رد القياس بصريح السنة أولى من رد السنة بالقياس، وبالله التوفيق. كيف وإن تحريم النساء والطيب واللِّبس أمر يختص بالإحرام، لا يتعلق بالضحية! وأما تقليم الظفر وأخذ الشعر فإنه من تمام التعبد بالأضحية، وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو أول الباب، وقوله: «تأخذ من شعرك، وتحلق عانتَك، فتلك تمامُ ضحيَّتِك عند الله»، فأحب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفير الشعر والظفر في العشر ليأخذه مع الضحية، فيكون ذلك من تمامها عند الله.

وقد شهد لذلك أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - شرع لهم إذا ذبحوا عن الغلام عقيقته أن يحلقوا رأسه، فدل على أن حَلْق رأسه مع الذبح أفضل وأولى، وبالله التوفيق.


تهذيب سنن أبي داود - ط عطاءات العلم (2/ 258 - 263)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله