وسافر في رمضان، فصام وأفطر، وخير أصحابه بين الأمرين، وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم، ليتقووا على لقائه.
فلو اتفق مثل هذا في الحضر وكان في الفطر قوة لهم على لقاء عدوهم فهل لهم الفطر؟ فيه قولان، أصحهما دليلا: أن لهم ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق. ولا ريب أن الفطر بذلك أولى من الفطر بمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحال، وأنها أحق بجوازه، لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر، ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر، ولأن الله تعالى قال: (وأعدوا لهم ما استطعتم) [الأنفال: 60]. والفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فسر القوة بالرمي، وهو لا يتم ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم"، وكانت رخصة، ثم نزلوا منزلا آخر فقال: "إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا" وكانت عزيمة. فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو.
وهذا سبب آخر غير السفر، والسفر مستقل بنفسه، ولم يذكره في تعليله ولا أشار إليه، فالتعليل به اعتبار لما ألغاه الشارع في هذا الفطر الخاص، وإلغاء وصف القوة التي يقاوم بها العدو، واعتبار السفر المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به.
وبالجملة فتنبيه الشارع وحكمته يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة ونبه عليها وصرح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها. ويدل عليه ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه يوم فتح مكة: "إنه يوم قتال فأفطروا" تابعه سعيد بن الربيع، عن شعبة. فعلل بالقتال ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال.
وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في الفطر: "إنه رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".
السفر في رمضان في غزوتي: بدر والفتح
وسافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها في غزاة بدر وفي غزاة الفتح. قال عمر بن الخطاب: "غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان غزوتين: يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما".
وأما ما رواه الدارقطني وغيره عن عائشة قالت: "خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة في رمضان … " الحديث= فغلط إما عليها وهو الأظهر، أو منها وأصابها فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجب، فقالت: "يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط". وكذلك أيضا عُمَرَه كلها في ذي القعدة، وما اعتمر في رمضان قط.
عدم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد
ولم يكن من هديه تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء. وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال، فأفطر وقال لمن صام: "قد رغبوا عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه - صلى الله عليه وسلم -، كما قال عبيد بن جبر: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: "اقترب". قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: "أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟". رواه أبو داود وأحمد.
ولفظ أحمد: "ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة، فلما دفعنا من مرساها أمر بسفرته فقربت، ثم دعاني إلى الغداء، وذلك في رمضان. فقلت: يا أبا بصرة، والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد! قال: أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: لا. قال: فكل. فلم نزل مفطرين حتى بلغنا".
وقال محمد بن كعب: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب. قال الترمذي: حديث حسن، وقال الدارقطني فيه: "فأكل وقد تقارب غروب الشمس".
وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه.
زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (2/ 69 - 71)