شهادة المجلود في حد القذف

وقول أمير المؤمنين رضي الله عنه في كتابه "أو مجلودا في حد" المراد به القاذف إذا حُدَّ للقذف لم تقبل شهادته بعد ذلك، وهذا متفق عليه بين الأمة قبل التوبة، والقرآن نص فيه؛ وأما إذا تاب ففي قبول شهادته قولان مشهوران للعلماء:

أحدهما: لا تقبل، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأهل العراق.

والثاني: تقبل، وهو قول الشافعي وأحمد ومالك.

وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: شهادة الفاسق لا تجوز وإن تاب، وقال القاضي إسماعيل: ثنا أبو الوليد ثنا قيس عن سالم عن قيس بن عاصم قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يشهده قال: أشهد غيري، فإن المسلمين قد فسقوني، وهذا ثابت عن مجاهد وعكرمة والحسن ومسروق والشعبي، في إحدى الروايتين عنهم، وهو قول شريح.

واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه أبد المنع من قبول شهادتهم بقوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) [النور: 4] ، وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده. قالوا: وقد روى أبو جعفر الرازي عن آدم بن فائد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام ولا محدودة، ولا ذي غمر على أخيه" وله طرق إلى عمرو.

ورواه ابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو، ورواه الالشهابيهقي من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو قالوا: وروى يزيد بن أبي زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة ترفعه "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود في حد، ولا ذي غمر لأخيه، ولا مجرب عليه شهادة زور، ولا ظنين في ولاء أو قرابة".

وروي عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.

قالوا: ولأن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته، ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد، فلو قذف ولم يحد لم ترد شهادته، ومعلوم أن الحد إنما زاده طهرة وخفف عنه إثم القذف أو رفعه، فهو بعد الحد خير منه قبله، ومع هذا فإنما ترد شهادته بعد الحد، فردها من تمام عقوبته وحده وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة، ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع توبته إقامة الحد عليه فكذلك شهادته.

وقال سعيد بن جبير: تقبل توبته فيما بينه وبين الله من العذاب العظيم، ولا تقبل شهادته؛ وقال شريح: لا تجوز شهادته أبدا، وتوبته فيما بينه وبين ربه. وسر المسألة أن رد شهادته جعل عقوبة لهذا الذنب؛ فلا يسقط بالتوبة كالحد.

قال الآخرون، واللفظ للشافعي: والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل الفقه إلا أن يفرق بين ذلك خبر، وأنبأنا ابن عيينة قال: سمعت الزهري يقول: زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، وأشهد لأخبرني فلان أن عمر قال لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك، قال سفيان: نسيت اسم الذي حدث الزهري، فلما قمنا سألت من حضر، فقال لي عمرو بن قيس: هو سعيد بن المسيب، فقلت لسفيان: فهل شككت فيما قال لك؟ قال: لا هو سعيد غير شك، قال الشافعي: وكثيرا ما سمعته يحدث فيسمى سعيدا، وكثيرا ما سمعته يقول: عن سعيد إن شاء الله، وأخبرني به من أثق به من أهل المدينة عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن عمر لما جلد الثلاثة استتابهم، فرجع اثنان فقبل شهادتهما، وأبى أبو بكرة أن يرجع فرد شهادته، ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر قال لأبي بكرة وشبل ونافع: من تاب منكم قبلت شهادته.

وقال عبد الرزاق: ثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن ابن المسيب أن عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: توبوا تقبل شهادتكم، فتاب منهم اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب، فكان عمر لا يقبل شهادته.

قالوا: والاستثناء عائد على جميع ما تقدمه سوى الحد، فإن المسلمين مجمعون على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة، وقد قال أئمة اللغة: إن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله؛ قال ابن عبيد في كتاب القضاء: وجماعة أهل الحجاز ومكة على قبول شهادته، وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول أن لا تقبل أبدا، وكلا الفريقين إنما تأولوا القرآن فيما نرى، والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى انقطع من عند قوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) [النور: 4] ثم استأنف فقال: (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) [النور: 4-5] فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة، وأما الآخرون فتأولوا أن الكلام تبع بعضه بعضا على نسق واحد فقال: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) [النور: 4-5] فانتظم الاستثناء كل ما كان قبله. قال أبو عبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به؛ لأن من قال به أكثر وهو أصح في النظر، ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب. قالوا: وأما ما ذكرتم عن ابن عباس فقد قال الشافعي: بلغني عن ابن عباس أنه كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب.

وقال علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) [النور: 4-5] فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل، وقال شريك عن أبي حصين عن الشعبي: يقبل الله توبته ولا يقبلون شهادته؟ ، وقال مطرف عنه: إذا فرغ من ضربه فأكذب نفسه ورجع عن قوله قبلت شهادته.

قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها ففيها ضعف؛ فإن آدم بن فائد غير معروف، ورواته عن عمر قسمان: ثقات، وضعفاء، فالثقات لم يذكر أحد منهم "أو مجلودا في حد" وإنما ذكره الضعفاء كالمثنى بن الصباح وآدم والحجاج، وحديث عائشة فيه يزيد وهو ضعيف، ولو صحت الأحاديث لحملت على غير التائب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد قبل شهادته بعد التوبة عمر وابن عباس، ولا يعلم لهما في الصحابة مخالف.

قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت شهادته اتفاقا؛ فالتائب من القذف أولى بالقبول. قالوا: وأين جناية قتله من قذفه؟ قالوا: والحد يدرأ عنه عقوبة الآخرة، وهو طهرة له؛ فإن الحدود طهرة لأهلها، فكيف تقبل شهادته إذا لم يتطهر بالحد ويرد أطهر ما يكون؟ فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهرا كاملا. قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلة التي ذكرها الله عقيب هذا الحكم، وهي الفسق، وقد ارتفع الفسق بالتوبة، وهو سبب الرد؛ فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع قالوا: والقاذف فاسق بقذفه، حد أو لم يحد، فكيف تقبل شهادته في حال فسقه وترد شهادته بعد زوال فسقه؟ قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلا يتاب منه ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ؟ وعند هذا فيقال: توبته من القذف تنزله منزلة من لم يقذف، فيجب قبول شهادته، أو كما قالوا. قال المانعون: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي، وهو من أوفى الجرائم، فناسب تغليظ الزجر، ورد الشهادة من أقوى أسباب الزجر، لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس؛ إذ هو عزل لولاية لسانه الذي استطال به على عرض أخيه، وإبطال لها، ثم هو عقوبة في محل الجناية، فإن الجناية حصلت بلسانه، فكان أولى بالعقوبة فيه، وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قطع يد السارق، فإنه حد مشروع في محل الجناية؛ ولا ينتقض هذا بأنه لم يجعل عقوبة الزاني بقطع العضو الذي جنى به لوجوه:

أحدها: أنه عضو خفي مستور لا تراه العيون، فلا يحصل الاعتبار المقصود من الحد بقطعه.

الثاني: أن ذلك يفضي إلى إبطال آلات التناسل وانقطاع النوع الإنساني.

الثالث: أن لذة البدن جميعه بالزنا كلذة العضو المخصوص، فالذي نال البدن من اللذة المحرمة مثل ما نال الفرج، ولهذا كان حد الخمر على جميع البدن.

الرابع: أن قطع هذا العضو مفض إلى الهلاك، وغير المحصن لا تستوجب جريمته الهلاك، والمحصن إنما يناسب جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع بعض أعضائه فافترقا.

قالوا: وأما قبول شهادته قبل الحد وردها بعده فلما تقدم أن رد الشهادة جعل من تمام الحد وتكملته؛ فهو كالصفة والتتمة للحد؛ فلا يتقدم عليه، ولأن إقامة الحد عليه ينقص عند الناس، وتقل حرمته، وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة غير منتهكها.

قالوا: وأما التائب من الزنا والكفر والقتل فإنما قبلنا شهادته لأن ردها كان نتيجة الفسق، وقد زال، بخلاف مسألتنا فإنا قد بينا أن ردها من تتمة الحد، فافترقا. قال القابلون: تغليظ الزجر لا ضابط له، وقد حصلت مصلحة الزجر بالحد، وكذلك سائر الجرائم جعل الشارع مصلحة الزجر عليها بالحد، وإلا فلا تطلق نساؤه، ولا يؤخذ ماله، ولا يعزل عن منصبه، ولا تسقط روايته، لأنه أغلظ في الزجر، وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة - رضي الله عنه -؛ وتغليظ الزجر من الأوصاف المنتشرة التي لا تنضبط، وقد حصل إيلام القلب والبدن والنكاية في النفس بالضرب الذي أخذ من ظهره؛ وأيضا فإن رد الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين، وإنما يتأثر بذلك وينزجر أعيان الناس، وقل أن يوجد القذف من أحدهم، وإنما يوجد غالبا من الرعاع والسقط ومن لا يبالي برد شهادته وقبولها؛ وأيضا فكم من قاذف انقضى عمره وما أدى شهادة عند حاكم، ومصلحة الزجر إنما تكون بمنع النفوس ما هي محتاجة إليه، وهو كثير الوقوع منها، ثم هذه المناسبة التي ذكرتموها يعارضها ما هو أقوى منها؛ فإن رد الشهادة أبدا تلزم منه مفسدة فوات الحقوق على الغير وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها، ولا يلزم مثل ذلك في القبول فإنه لا مفسدة فيه في حق الغير من عدل تائب قد أصلح ما بينه وبين الله، ولا ريب أن اعتبار مصلحة يلزم منها مفسدة أولى من اعتبار مصلحة يلزم منها عدة مفاسد في حق الشاهد وحق المشهود له وعليه، والشارع له تطلع إلى حفظ الحقوق على مستحقيها بكل طريق وعدم إضاعتها، فكيف يبطل حقا قد شهد به عدل مرضي مقبول الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه رواية وفتوى؟

وأما قولكم " إن العقوبة تكون في محل الجناية " فهذا غير لازم، لما تقدم من عقوبة الشارب والزاني، وقد جعل الله سبحانه عقوبة هذه الجريمة على جميع البدن دون اللسان، وإنما جعل عقوبة اللسان بسبب الفسق الذي هو محل التهمة، فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها. وأما قولكم: " إن رد الشهادة من تمام الحد " فليس كذلك؛ فإن الحد تم باستيفاء عدده، وسببه نفس القذف؛ وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف، لا الحد، فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق، وحصول الحد، وهما متغايران.


إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 95- 99)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله