ومن تأمل ما وصف الله به المنافقين فيى القرآن من صفات الذم علم أنهم أحق بالدرك الأسفل، فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده ووصف قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك، ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراءِ الضلالة بالهدى، والصمم والبكم والعمى والحيرة والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره، والتردد- والتذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذباً وباطلاً وبالكذب وبغاية الجبن، وبعدم الفقه في الدين وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله واليوم الآخر وبالرب، وبأنهم مضرة على المؤمنين ولا يحصل كلهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال والإسراع بينهم بالشر وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر الله، ومحو الحق، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة الله وسبيله، وبعيب المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم فيلزمون المتصدقين ويعيبون مزهدهم، ويرمون مكثرهم بالرياءِ إرادة الثناء في الناس، وأنهم عبيد الدنيا إن أُعطوا منها رضوا وإن مُنعوا سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبونه إلى ما برأه الله منه ويعيبونه بما هو من كماله وفضله، وأنهم يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ رب العالمين، وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكرهون الجهاد في سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله عليهم بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله، وأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جُنّة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأْن المنافق أحلف الناس بالله كاذباً قد اتخذ يمينه جُنّة ووقاية يتقى بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس- والرجس من كل جنس أخبثه وأقذره- فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم في كل زمان، وارتابوا في الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأماني الباطلة وغرهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجساماً تعجب الرائي أجسامهم، والسامع منطقهم، فإذا جاوَزْت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسنّده، ولا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليس وراءَ ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مُغنٍ عنها وعن الطاعات جملة- كحال كثير من الزنادقة-وإما احتقاراً وازدراءً بمن يدعوهم إلى ذلك، ووصفهم سبحانه بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله وبأنهم مجرمون وبأنهم يأْمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، ونسيان ذكره، وبأنهم يتولون الكفار ويدعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلاً، وأنهم حزب الشيطان وأنهم يوادُّون من حادّ الله ورسوله وبأنهم يتمنون ما يُعنِت المؤمنين ويشق عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأْخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاء.
ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها: الشُّحّ على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بأَلسنة حداد، فهم أحد الناس أَلسنة عليهم كما قيل:
جهلاً علينا وجبناً عن عدوكم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
وإنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتهم، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم وظهرت المخبآت وبدت الأسرار.
ومن صفاتهم: أنهم أعذب الناس ألسنة، وأمرِّهم قلوباً وأعظم الناس مخالفة بين أعمالهم وأقوالهم، ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقهٍ في دين أبداً، ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم.
ومن صفاتهم: أن المؤمن لا يثق بهم في شيء فإنهم قد أعدوا لكل أَمر مخرجاً منه، بحق أو بباطل بصدق أو بكذب، ولهذا سُمّى منافقاً أخذاً من نافقاءِ اليربوع- وهو بيت يحفره ويجعل له أسراباً مختلفة- فكلما طُلب من سرب خرج من سرب آخر، فلا يتمكن طالبه من حصره في سرب واحد، قال الشاعر:
ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره بالشيحة اليتقصع
فأنت منه كقبض على الماءِ، ليس معك منه شيء، ومن صفاتهم كثرة التلون، وسرعة التقلب، وعدم الثبات على حال واحد: بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً وتنقلاً، جيفة بالليل قُطرب بالنهار.
ومن صفاتهم: أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَد أمرُوا أَن يَكْفُروا بهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافقِين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْف إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهِمْ ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُم فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء: 60-63] .
ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاءَ، فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى في آراءِ الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى.
ومن صفاتهم: كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم: فيرمونهم- إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله- بأنهم أهل فتن مفسدون في الأرض، وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون في الأرض، وإذا دعا ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير مثوبة رموهم بالبدع والضلال، وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزوكرة، والتلبيس والمحال.
وإذا رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم.
وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هُم، وليس على الأديان أضرَّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم، ولهذا جلّا الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم وبيّن أحوالهم وكرر ذكرهم، لشدة المؤنة على الأُمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى وَعَدُوهُم ومَنُّوهم، ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور.
فكم من قتيل، ولكن في سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان، وأسير لا يرجى له الخلاص وفارّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص، صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأْيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان وقطعت له مقطعات من البلاءِ والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالاً، ويمشى على عقبيه القهقرى إدباراً منه وهو يحسب ذلك إقبالاً.
فهم والله قطاع الطريق، فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء، حذار منهم حذار، هم الجزارون ألسنتهم شفار البلايا؛ ففراراً منهم أيها الغنم فراراً.
ومن البلية أنهم الأعداءُ حقاً وليس لنا بُدٌّ من مصاحبتهم، وخلطتهم أعظم الداءِ وليس بُدٌّ من مخالطتهم بُدٌّ قد جُعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعداً للمستجيبين، ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترين، نصبوا الشباك ومدوا الأشراك وأذّن مؤذنهم: يا أشباه الأنعام حي على الهلاك، حي على التباب، فاستبقوا يهرعون إليهم، فأوردوهم حياض العذاب، لا الموارد العذاب، وساموهم من الخسف والبلاءِ أعظم خطة، وقالوا: ادخلوا باب الهوان صاغرين ولا تقولوا حِطة، فليس بيوم حطة، فواعجباً لمن نجا من شراكهم لا من عَلَق، وأنّى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خُلق.
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 404-409)