مقدمة كتاب: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي سَهَّل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا، وأوضحَ لهم طريقَ الهداية وجعل اتباعَ الرسول عليها دليلا، واتَّخذهم عبيدًا له فأقرُّوا له بالعبودية ولم يتَّخذوا من دونه وكيلا، وكتَب في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم برُوحٍ منه، لمَّا رضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولا.

والحمدُ لله الذي أقام في أزمنة الفَتَرات من يكونُ ببيان سُنن المرسلين كفيلا، واختصَّ هذه الأمةَ بأنه لا تزالُ فيها طائفةٌ على الحقِّ لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمرُه ولو اجتَمع الثقلان على حربهم قَبِيلا.

يَدْعُون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، ويُحْيُون بكتابه الموتى؛ فهم أحسنُ الناس هديًا وأقومُهم قِيلا.

فكم مِنْ قتيلٍ لإبليس قد أحْيَوْه، ومِنْ ضالٍّ جاهلٍ لا يعلمُ طريقَ رُشْدِه قد هَدَوْه، ومِنْ مبتدعٍ في دين الله بشُهب الحقِّ قد رَمَوْه؛ جهادًا في الله، وابتغاءَ مرضاته، وبيانًا لحُجَجه على العالمين وبيِّناته، وطلبًا للزلفى لديه ونَيل رضوانه وجناته، فحارَبوا في الله من خرج عن دينه القويم، وصراطه المستقيم، الذين عَقَدوا ألويةَ البدعة، وأطلقوا أعِنَّةَ الفتنة، وخالفوا الكتاب، واختلفوا في الكتاب، واتفقوا على مفارقة الكتاب، ونبذوه وراءَ ظهورهم، وارتضوا غيرَه منه بديلا.

أحمدُه وهو المحمودُ على كلِّ ما قدَّره وقضاه، وأستعينُه استعانةَ من يعلمُ أنه لا ربَّ له غيره ولا إله له سواه، وأستهديه سبيلَ الذين أنعَمَ عليهم ممن اختاره لقبول الحقِّ وارتضاه، وأشكرُه والشُّكرُ كفيلٌ بالمزيد من عطاياه، وأستغفرُه من الذُّنوب التي تَحُولُ بين القلب وهُداه، وأعوذُ به من شرِّ نفسي وسيئات عملي استعاذةَ عبد فارٍّ إلى ربِّه بذنوبه وخطاياه، وأعتَصِمُ به من الأهواء المُرْدِية والبدع المُضِلَّة، فما خابَ من أصبح به معتصمًا وبحِمَاه نزيلا.

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أشهدُ بها مع الشاهدين، وأتحمَّلها عن الجاحدين، وأدَّخرها عند الله عُدَّةً ليوم الدِّين.

وأشهدُ أن الحلال ما حلَّله، والحرامَ ما حرَّمه، والدينَ ما شَرَعَه، وأن السَّاعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأن اللهَ يبعثُ من في القبور.

وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه المصطفى، ونبيُّه المرتضى، ورسولُه الصَّادقُ المصدوق، الذي لا ينطقُ عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، أرسله رحمةً للعالمين، ومَحَجَّةً للسَّالكين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، أرسله على حين فترةٍ من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطُّرق وأوضح السُّبل، وافترض على العباد طاعتَه وتعظيمَه، وتوقيرَه وتبجيلَه، والقيامَ بحقوقه، وسَدَّ إليه جميع الطُّرق فلم يَفْتَح لأحدٍ إلا من طريقه، فشَرَحَ له صدرَه، ورَفَعَ له ذِكْرَه، ووَضَع عنه وِزْرَه، وجعَل الذِّلَّة والصَّغار على من خالف أمرَه، هدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وبصَّر به من العمى، وأرشدَ به من الغَيِّ، وفتحَ به أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا.

فلم يزل صلى الله عليه وسلم قائمًا بأمر الله لا يردُّه عنه رادٌّ، داعيًا إلى الله لا يصدُّه عنه صادٌّ، إلى أن أشرقت برسالته الأرضُ بعد ظلماتها، وتألَّفت به القلوبُ بعد شَتاتها، وسارت دعوتُه مسيرَ الشمس في الأقطار، وبلغ دينُه ما بلغ الليلُ والنَّهار.

فلمَّا أكمل الله به الدِّين، وأتمَّ به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به، ونَقَلَه إلى الرفيق الأعلى من كرامته، والمحلِّ الأرفع الأسنى من أعلى جنَّاته، ففارَق الأمةَ وقد تركها على المحجَّة البيضاء، التي لا يزيغُ عنها إلا من كان من الهالكين.

فصلى الله عليه وعلى آله الطَّيبين الطَّاهرين، صلاةً دائمةً بدوام السَّماوات والأرضين، مقيمةً عليهم أبدًا لا ترومُ انتقالًا عنهم ولا تحويلا.


مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 3 - 5)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله