مسألة تقديم السمع على البصر والخلاف فيها

وأما تقديم السمع على البصر؛ فهو متقدم عليه حيثُ وقعَ في القرآن مصدراً أو فعلاً أو اسماً.

فالأول: كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

والثاني: كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].

والثالث: كقوله تعالى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61]، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فاحتجَّ بهذا من يقول: إن السمعَ أشرفُ من البصر، وهذا قول الأكثرين، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل، ونصبوا معهم الخلافَ، وذكروا الحِجَاج من الطرفين، ولا أدري ما يترتَّب على هذه المسألة من الأحكام حتى تُذكر في كتب الفقه!! وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين.

وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة تفضيل البصر، وردَّ عليه، واحتج مفضِّلو السمع بأن الله تعالى يقدِّمه في القرآن حيثُ وقع، وبأن بالسَّمع تُنال سعادة الدنيا والآخرة، فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان بما جاءوا به، وهذا إنما يُدْرَك بالسمع، ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع: " [أَرْبَعَةٌ] كُلُّهُمْ يُدْلي عَلَى اللهِ بِحُجَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فذكر منهم رجلاً أصم يقول: "يَا رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلامُ وَأَنا لا أَسْمَعُ شَيْئاً".

واحتجُّوا: بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة من البصر، فإنَّ البصر لا يُدرِك إلا بعضَ الموجودات المشاهدة بالبصر القريبة، والسمع يُدرِك الموجودات والمعدومات، والحاضر والغائب، والقريب والبعيد، والواجب والممكن والممتنع، فلا نسبة لإدراك البصر إلى إدراكه.

واحتجوا: بأن فَقْدَ السمع يوجب بَكَم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خِلْقةً لا يَنْطق في الغالب، وأما فقد البصر؛ فربما كان مُعِيْناً على قوة إدراك البصيرة وشدَّةِ ذكائها، فإنَّ نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطناً فيقْوَى إدراكُها ويعظُم، ولهذا تجد كثيراً من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقَّاد، والفطنة وضياء الحس الباطن، مالاً تكاد تجده عند البصير، ولا ريب أن سَفَر البصر في الجهات والأقطار، ومباشرته للمُبْصَرات على اختلافها، يوجِبُ تفرُّق القلب وتشتيته؛ ولهذا كان الليل أجمع للقلب، والخلوة أعون على إصابة الفكرة.

قالوا: فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر، ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإِسلام من هو أعمى، ولم يُعرف فيهم واحد أطرش، بل لا يعرف في الصحابة أطرش، فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل السمع.

قال مُنَازعوهم: يفصل بيننا وبينكم أمران:

أحدهما: أن مَدْرَك البصر هو النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة، وهو أفضل نعيم أهل الجنة وأحبه إليهم، ولا شيءَ أكمل من المنظور إليه سبحانه، فلا حاسَّة في العبد أكمل من حاسَّةٍ تَرَاه بها.

الثاني: أن هذا النعيم وهذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع؛ فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم، ففضِيلته عليه كفضِيْلةِ الغايات على وسائلها.

وأما ما ذكرتم من سَعَة إدراكاته وعمومها؛ فيعارضه كثرة الخيانة فيها ووقوع الغلط، فإن الصواب فيما يدركه السمع، بالإضافة إلى كَثْرة المسموعات؛ قليل في كثير، ويقابل كثير مُدْرَكاته صحة مُدْرَكات البصر، وعدم الخيانة، وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، وإذا تقابلت المرتبتان؛ بقيَ الترجيح بما ذكرناه.

قال شيخ الإِسلام تقي الدين ابن تيمية -قدَّس اللهُ روحَه ونور ضريحه-: "وفَصْل الخطاب: أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختصَّ به" تمَّ كلامُه.

وقد ورد في الحديث المشهور أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "هَذَانِ السَّمْعُ والبَصَرُ"، وهذا يحتمل أربعة أوجه:

أحدها: أن يكون المراد أنهما منِّي بمنزلة السمع والبصر.

والثاني: أَنْ يريد أنهما من دين الإِسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلب والروح، وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين، وعلى هذا فيَحْتَمِلُ وجهين:

أحدهما: التوزيع؛ فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر.

والثاني: الشركة؛ فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاسَّتين ثابتاً لكلِّ واحد منهما، فكلٌّ منهما بمنزلة السمع والبصر، فعلى احتمال (ق/ 28 أ) التوزيع والتقسيم تكلَّم الناسُ أيهما هو السمع، وأيهما هو البصر، وبَنَوا ذلك على أيُّ الصفتين أفضل؛ فهي صفة الصدِّيق.

والتحقيقُ: أنَّ صفة البصر للصديق، وصفة السمع للفاروق، ويظهرُ لك هذا من كون عُمر محدَّثاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فإِنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ؛ فَعُمَرُ"، والتحديث المذكور هو ما يُلْقَى في القلب من الصوابِ والحقّ، وهذا طريقُه السمع الباطن، وهو بمنزلة التحديث والإخبار للأُذن.

وأما الصِّدِّيق: فهو الذي كمَّل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنَّه قد باشر بصرُه مما أخبرَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم ما باشرَ قلبُه، فلم يبقَ بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى ما أَخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يُكْرَم بها، وليس بعد درجة النبوَّة إلا هي، ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] وهذا هو السِّر الذي سَبَقَ به الصديقُ، لا بكثرةِ صومٍ ولا بكثرةِ صلاة، وصاحب هذا هو الذي:

يمشي رُوَيداً ويجي في الأوَّل

ولقد تعنَّى من لم يكن سَيْره على هذه الطريق وتَشْميره إلى هذا العلم، وقد سبق من شمَّر إليه وإن كان يزحف زحفاً ويحبو حبواً، ولا تستَطِل هذا الفصل، فإنَّه أهم من ما قُصِدَ بالكلام، فليعد إليه.

فقيل: تقديم السَّمع على البصر له سببان:

أحدهما: أن يكون السِّياق يقتضيه بحيث يكون ذِكْر هاتين: الصِّفتين متضمِّناً للتهديد والوعيد، كما جرت عادةُ القرآن بتهديد المخاطَبين، وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة كقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] والقرآن مملوء من هذا، وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمعُ ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي، وأُبْصِرُ ما يفعلون.

ولا ريب أنَّ المخاطَبين بالرسالة بالنِّسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان:

أحدهما: قابلوها بقولهم: صَدَقْتَ، ثمَّ عملوا بموجبها.

والثاني: قابلوها بالتكذيب، ثمَّ عملوا بخلافها، فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر، فقدّم ما يتعلَّق به على ما يتعلّق بالمبصَر، وتأمَّل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] هو يسمع ما يجيبهم به ويرى ما يصنعه، وهذا لا يعم سائر المواضع، بل يختصَّ منها بما هذا شأْنُه.

والسبب الثاني: أَنَّ إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام، مع غاية البعد بين السامع والمسموع، أشدّ من إنكارها لرؤيته مع بُعْدِه.

وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثةُ نَفَرٍ؛ ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون الله يسمعُ ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جَهَرْنا ولا يسمع إن أخفَيْنا، فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا؛ فهو يسمع إذا أخفينا.

ولم يقولوا: أترون الله يرانا؟ فكان تقديم السَّمع أهم، والحاجة إلى العلم به أمسّ.

وسببٌ ثالث: وهو أنَّ حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح، وأشدها تأثيراً في الخير والشر، والصلاح والفساد، بل عامَّة ما يترتَّب في الوجود من الأفعال، إنما ينشأ بعد حركة اللسان؛ فكان تقديم الصفة المتعلِّقة به أهم وأولى، وبهذا يُعْلَم تقديمه على العليم حيث وقع.


بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 123 - 130)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله