لِلّهِ عَلَى كُل إنسانٍ عُبودِيّة بِحسبِ مَرتَبَتِه

على العالم من عبوديته نشرُ السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من عبودية إقامةِ الحقِّ وتنفيذِه، وإلزامِ مَن عليه به، والصبرِ على ذلك، والجهاد عليه= ما ليس على المفتي. وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.

وتكلَّم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت له امرأة: هذا واجب قد وُضِعَ عنَّا. فقال: هبي أنه قد وُضِعَ عنكنَّ سلاحُ اليد واللسان، فلم يُوضَع عنكن سلاحُ القلب. فقالت: صدقتَ، جزاك الله خيرًا.

وقد غرَّ إبليسُ أكثرَ الخلق بأن حسَّن لهم القيامَ بنوعٍ من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطَّلوا هذه العبوديات، فلم يحدِّثوا قلوبَهم بالقيام بها. وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقلِّ الناس دينًا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به. فتاركُ حقوق الله التي تجب عليه أسوأُ حالًا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي؛ فإنَّ تركَ الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهًا ذكرها شيخنا في بعض تصانيفه.

ومن له خبرةٌ بما بعث الله به رسولَه وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أنَّ أكثرَ من يشار إليهم بالدين هم أقلُّ الناس دينًا، والله المستعان.

وأيُّ دين وأيُّ خير فيمن يرى محارمَ الله تُنتهَك، وحدودَه تُضاعُ، ودينَه يُترَك، وسنَّةَ رسوله يُرغَب عنها؛ وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس؟ كما أن المتكلِّم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سَلِمت لهم مآكلُهم ورياساتُهم فلا مبالاةَ بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزِّن المتلمِّظ. ولو نُوزِع في بعض ما فيه غضاضةٌ عليه في جاهه أو ماله بذَل وتبذَّل وجدَّ واجتهَد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء ــ مع سقوطهم من عين الله، ومقتِ الله لهم ــ قد بُلُوا في الدنيا بأعظم بليَّةٍ تكون، وهم لا يشعرون. وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتمَّ كان غضبُه لله ورسوله أقوى، وانتصارُه للدين أكمل.

وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا: أنَّ اللهَ سبحانه أوحى إلى مَلَكٍ من الملائكة أن اخسفْ بقرية كذا وكذا. فقال: يا ربِّ كيف وفيهم فلانٌ العابدُ؟ فقال: به فابدأْ، فإنه لم يتمعَّرْ وجهُه فيَّ يومًا قطُّ.

وذكر أبو عمر في كتاب «التمهيد» أنَّ الله سبحانه أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه أنْ قُلْ لفلانٍ الزاهد: أمَّا زُهدُك في الدنيا، فقد تعجَّلْتَ به الراحةَ. وأما انقطاعُك إليَّ، فقد اكتسبْتَ به العزَّ. ولكن ماذا عملْتَ فيما لي عليك؟ فقال: يا ربِّ، وأيُّ شيءٍ لك عليَّ؟ قال: هل واليتَ فيَّ وليًّا، أو عاديتَ فيَّ عدوًّا.


إعلام الموقعين عن رب العالمين (٢/ ٥٠٨ - ٥١١ ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله