والفرق بين الإيثار والأثرة أنَّ "الإيثار" تخصيص الغير بما تريده لنفسك. و"الأثرة" اختصاصك به على الغير. وفي الحديث: "بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عُسْرنا ويُسْرنا، ومَنشَطنا ومَكْرَهِنا، وأثَرةٍ علينا".
إذا عرف هذا، فالإيثار إمَّا أن يتعلَّق بالخلق، وإمَّا أن يتعلّق بالخالق. فإن تعلّق بالخلق، فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتًا، ولا يفسد عليك حالًا، ولا يهضِم لك دينًا، ولا يسدّ عليك طريقًا، ولا يمنع لك واردًا. فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثارُ نفسك عليهم أولى، فإن الرجلَ مَن لا يؤثر بنصيبه من اللَّه أحدًا كائنًا من كان.
وهذا في غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه. فإنَّ الإيثار المحمود الذي أثنى اللَّه على فاعله الإيثار بالدنيا، لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال اللَّه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر/ 9]. فأخبر تعالى أنَّ إيثارهم إنَّما هو بالشيء الذي إذا وُقِي الرجلُ الشحَّ به كان من المفلحين. وهذا إنَّما هو فضول الدنيا، لا الأوقات المصروفة في الطاعات؛ فإنَّ الفلاح كلّ الفلاح في الشحّ بها، فمن لم يكن شحيحًا بوقته تركه الناس على الأرض عريانا مفلسًا؛ فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله.
وممَّا يدلُّ على هذا أنَّه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البرّ، والتنافس فيها، والمبادرة إليها؛ وهذا ضدّ الإيثار بها. قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران/ 133] وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة/ 148] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين/ 26]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفّ الأوَّل لكانت قُرْعةً". والقرعة إنَّما تكون عند التزاحم والتنافس، لا عند الإيثار. فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلًّا للإيثار، بل محلًّا للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاء: "لا يستحبّ الإيثار بالقربات".
والسرّ فيه -واللَّه أعلم- أنَّ الإيثار إنَّما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثِر والمؤثَر، بل لا يسع إلا أحدَهما. وأمَّا أعمال البرّ والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلّفة في الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووَسِعَتْهم كلَّهم. وإن قُدِّر التزاحمُ في عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع، بحيث إذا فعله واحد فات على غيره؛ فإنَّ في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله، كما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير حديث. فإذا قُدِّرَ فوتُ مباشرته له، فلا يفوت عليه عزمُه ونيَّتُه لفعله.
وأيضًا فإنَّه إذا فات عليه كان في غيره من الطاعات والقربات عوضٌ منه: إمَّا مساوٍ له، وإمَّا أزيد، وإمَّا دونه. فمتى أتى بالعوض، وعلِم اللَّه من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت، أعطاه ثوابَه وثوابَ ما تعوّض به عنه؛ فجمع له الأمرين. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
وأيضًا فإنَّ المقصود رغبة العبد في التقرّب إلى اللَّه، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابّه؛ والإيثار بهذا التقرّب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه. وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه، إذا كان أخوه محتاجًا إليه، فإذا اختصّ به أحدهما فات الآخر، فندب اللَّه سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوَّةً وصبرًا على الإيثار به، ما لم يخرِمْ عليه دينًا، أو يجلبْ له مفسدةً، أو يقطعْ عليه طريقًا عزم على سلوكه إلى ربّه، أو يشوّشْ عليه قلبه بحيث يجعله متعلِّقًا بالخلق؛ فمفسدة الإيثار هنا أرجح من مصلحته. فإذا ترجَّحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمَّن إنقاذَ نفسٍ من هلكة أو عطب أو شدَّة ضرورة -وليس بالمؤثَر نظيرها- تعيَّن عليه الإيثار. فإن كان به نظيرها لم يتعيَّن عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان؛ فإنَّه من آثر حياةَ غيره على حياته وضرورتَه على ضرورته، فقد استولى على أمد الكرم والسخاء، وحاز قصباته، وضرب فيه بأوفر الحظّ. وفي هذا الموضع مسائل فقهية ليس هذا موضع ذكرها.
طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (2/ 648 - 651)