مذهب أهل السنة والجماعة في القدر

وهدى اللَّه بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء اللَّه وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنَّه ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّه مقلِّب القلوب ومصرّفها كيف أراد. وأنَّه هو الذي جعل المؤمن مؤمنًا، والمصلي مصلِّيًا، والمتقي متقيًا. وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار. وأنَّه ألهمَ كلَّ نفس فجورها وتقواها، وأنَّه يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. وأنَّه هو الذي وفَّق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه، ولو شاءَ لخذلَهم فعصَوه؛ وأنَّهُ حال بين الكفار وقلوبهم، فإنَّه يحول بين المرءِ وقلبه، فكفروا به، ولو شاءَ لوفَّقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنَّه من يهده اللَّه فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأنَّهُ لو شاءَ لآمن من في الأرضِ كلهم جميعًا إيمانًا يُثابون عليه، ويقبل منهم، ويرضى به عنهم. وأنَّه لو شاء ما اقتتلوا، ولكنَّ اللَّه يفعل ما يريد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام/ 112].

والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم، وأخبربها عن ربه:

الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.

الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض.

الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه.

الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنَّه لا خالق إلا اللَّه، واللَّه خالق كل شيء، فالخالق عندهم واحد، وما سواه فمخلوق، ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق.

ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنَّه حكيم في كل ما فعَله وخلَقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامَّة هي التي اقتضت صدورَ ذلك وخلقَه، وأنَّ حكمته حكمةُ حقٍّ عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارةً عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره، كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرّون بلفظها دون حقيقتها، بل هي أمر وراء ذلك. وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلَّق محبته وحمدِه، ولأجلها خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأماتَ فأحيا، وأسعد وأشقى، وأضلَّ وهدى، ومنع وأعطى.

وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثباتُ الفعل مع نفيها إثباتٌ للوسائل ونفيٌ للغايات وهو محال، إذ نفيُ الغاية مستلزِم لنفي الوسيلة، فنفيُ الوسيلة -وهي الفعل- لازم لنفي الغاية وهي الحكمة. ونفيُ قيام الفعل والحكمة به نفيٌ لهما في الحقيقة، إذ فعلٌ لا يقوم بفاعله وحكمةٌ لا تقوم بالحكيم شيء لا يُعقل. وذلك يستلزم إنكارَ ربوبيته وإلهيته. وهذا لازمٌ لمن نفى ذلك، لا محيدَ له عنه وإن أبى التزامَه.

وأمَّا من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حقٌّ، ولازم الحق حق كائنًا ما كان.

والمقصود: أنَّ ورثة الرسل وخلفاءهم -لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاءِ والقدر والحِكَمِ والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمرِ والنهي، وصدَّقوا بالوعد والوعيد. فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثباتُ القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمانُ بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب. فصدَّقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفي لوازمهما -كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر فكانوا أسعدَ النَّاس بالحقِّ وأقربَهم عصبةً في هذا الميراث النبوي. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.

واعلم أنَّ الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواصّ الخلق ولبّ العالم. وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسمّيات وجحدِ حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإنَّ القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني، ويجعل قضاءَه وقدرَه هو نفسَ أمره ونهيه، ويفسر مشيئة اللَّه لأفعال عباده بأمره لهم بها، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر. وكذلك الحكمة، فإنَّ الجبرية تؤمن بلفظها وتجحد حقيقتها، فإنَّهم يجعلونها مطابقةَ علمه تعالى لمعلومه، وإرادته لمراده. فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقةً، ويثبتون حكمةً زائدةً على ذلك، لكنَّهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم، ويجعلونها مخلوقًا من مخلوقاته، كما قالوا في كلامه وإرادته. فهؤلاء كلهم أقرُّوا بلفظ الحكمة، وجحدوا معناها وحقيقتها.

وكذلك الأمرُ والشرع، فإنَّ من أنكر كلام اللَّه وقال: إنَّ اللَّه لم يتكلَّم ولا يتكلَّم، ولا قال ولا يقول، ولا يحبُّ شيئًا ولا يبغض شيئًا؛ وجميعُ الكائنات محبوبةٌ له، وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحِبّ، ولا يحَبّ، ولا يرضى، ولا يغضب؛ ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب، والبرّ والفجور، والسجود للأصنام والشمس والقمر والنجوم وبين السجود له. ولم يكلف أحدًا ما يقدر عليه، بل كلُّ تكاليفه تكليفُ ما لا يطاق، ولا قدرة للمكلَّف عليه البتة. ويجوز أن يعذِّب رجالًا إذ لم يكونوا نساء، ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالًا، وسودًا حيث لم يكونوا بيضًا، وعكسه. ويجوزُ أن يُظهر المعجزةَ على أيدي الكذَّابين، ويُرسل رسولًا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور.

ولا ريبَ أنَّ هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية، ولو لا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل، ولكن مشى الحالُ بعضَ المشي بتناقضهم، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقولِ بموجبها.

والمقصود: أنَّه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقةَ الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتُهم.

والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: "القدر قدرة اللَّه". واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غايةَ الاستحسان، وقال: إنَّه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر.

ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذَّبت بالعلم السابق ونفَتْه، وهم غلاتهم الذين كفِّرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورةً للَّه تعالى، وصرَّحت بأنَّ اللَّه لا يقدر عليها. فأنكر هؤلاء كمالَ قدرة الرب تعالى، وأنكرت الأخرى كمالَ علمه. وقابلتهم الجبرية، فحافظت على إثبات القدرة والعلم، وأنكرت الحكمة والرحمة.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (1/ 192 - 197)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله