وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار، ففي غاية المناسبة والحكمة. فإنَّ الليل مظنّةُ هدوء الأصوات، وسكون الحركات، وفراغ القلوب، واجتماع الهمم المشتَّتة بالنهار. فالنهارُ محلُّ السَّبح الطويل بالقلب والبدن، والليلُ محلُّ مواطأةِ القلب للسان، ومواطأةِ اللسان للأذن.
ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بالستِّين إلى المائة، وكان الصدِّيق يقرأ فيها بالبقرة، وعمر بالنحل وهود وبني إسرائيل ويونس ونحوها من السور؛ لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم، فإذا كان أولَ ما يقرع سمعَه كلامُ الله الذي فيه الخير كلُّه بحذافيره صادفه خاليًا من الشواغل، فتمكَّن فيه من غير مزاحم.
وأما النهار فلما كان بضدِّ ذلك كانت قراءة صلاته سرِّيَّة، إلا إذا عارض ذلك معارضٌ أرجَحُ منه، كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف، فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود، وأنفع للجمع، وفيه من قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة. والله أعلم.
إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 444 - 445 ط عطاءات العلم)