الكلام في التفضيل راجع إلى معرفة أسباب الفضل

فائدة: الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حُرِّر محل التفضيل صار وفاقا؛ فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم.

فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل: فذلك أمر لا يُطّلع عليه إلا بالنص؛ لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة، وإن أريد بالتفضيل التفضّل بالعلم: فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة، وأدّت إلى الأمة من العلم ما لم يُؤدّ غيرها، واحتاج إليها خاصّ الأمة وعامتها، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب: فلا ريب أن فاطمة أفضل؛ فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير إخوتها، وإن أريد السيادة: ففاطمة سيدة نساء الأمة.

 وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل.

وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يُفصِّل جهات الفضل، ولم يوازن بينهما؛ فيبخس الحق، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصّب وهوى لمن يفضله: تكلم بالجهل والظلم.

 

مسائل متنوعة في التفضيل.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل فأجاب فيها بالتفصيل الشافي فمنها:

أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو العكس؟

فأجاب بما يشفي الصدور فقال: "أفضلهما أتقاهما لله تعالى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة".

ومنها أنه سئل عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟

فقال: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة". وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا؛ فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية، وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر؛ فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.

ومنها أنه سئل عن ليلة القدر وليلة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل؟

فأجاب بأن: ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة؛ فحظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظّه من ليلة القدر، وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظ لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها لمن أسرى به".

ومنها أنه سئل عن يوم الجمعة ويوم النحر؟

فقال: "يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام". وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه.

ومنها أنه سئل عن خديجة وعائشة أمّيِ المؤمنين أيهما أفضل؟

فأجاب: بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به غيرها. فتأمل هذا الجواب الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقا لم تخلص من المعارضة.

ومنها أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟

فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزّهين عما يُلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الربّ، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة".

وبهذا التفصيل يتبين سرّ التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه. فعلى المتكلم في هذا الباب أن يعرف أسباب الفضل:

أولا: ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها.

ثانيا: ثم نسبتها إلى من قامت به.

ثالثا: كثرة وقوة ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها.

رابعا: قرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالا لغيره؛ بل كمال غيره بسواها؛ فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه، وكمال أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا. فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل.

وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص وأبعد من الهوى والغرض، وههنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصّره الله وهي: أن كثيرا ممن يتكلم في التفضيل يستشعر نسبته وتعلّقه بمن يُفضِّله ولو على بُعد ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله وتكون تلك النسبة والتعلّق مهيجة له على التفضيل والمبالغة فيه واستقصاء محاسن المفضّل، والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضّل عليه بالعكس.

ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه غير سالم من هذا، وهذا مناف لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها ولا يرضي غيرها، ومن هذا تفضيل كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ كل منهم لمذهبه وطريقته أو شيخه، وكذلك الأنساب والقبائل والمدائن والحِرف والصناعات؛ فإن كان الرجل ممن لا يُشك في علمه وورعه خيف عليه من جهة أخرى، وهو أنه يشهد حظّه نفعه المتعلق بتلك الجهة ويغيب عن نفع غيره بسواها؛ لأن نفعه مشاهد له أقرب إليه من علمه بنفع غيره، فيفضل ما كان نفعه وحظه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه. فهذه نكت جامعة مختصرة إذا تأملها المنصف عظُم انتفاعه بها، واستقام له نظره ومناظرته والله الموفق.


بدائع الفوائد (3/ 161 - 64)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله