صفة النبي صلى الله عليه وسلم والخبر عنه في الكتب المتقدمة

 

ومن ذلك ‌أخبار ‌أُميَّةَ ‌بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيِّ، ونحن نذكر بعضها.

قال الزُّبير بن بَكَّار: حدثني عمي مُصْعَبٌ، عن مصعب بن عثمان، قال: كان أُمية قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المُسُوحَ تعبُّدًا، وكان ممن ذكر إبراهيمَ وإسماعيلَ والحنيفيَّةَ، وحرَّم الخمر والأوثان، والتَمَسَ الدِّين، وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أنَّ نبيًّا يُبْعَث مِنَ العرب فكان يرجو أن يكون هو، فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قيل له: هذا الذي كنت تبشِّر به وتقول فيه، فحسده عدوُّ الله وقال: أنا كنت أرجو أنْ أكونَ هو. فأنزل الله -عز وجل- فيه : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].

وهو الذي يقول:

كل دِيْنٍ يومَ القيامةِ عِنْدَ اللهِ … -إلَّا دِيْنَ الحَنيفة- زُوْرُ

قال الزُّبير: وحدَّثني عمر بن أبي بكر المُؤمِّليّ، قال: كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين ويطمع في النبوة، فخرج إلى الشام (فمرَّ بكنيسة) ، وكان معه جماعة من العرب من قريش وغيرهم، فقال أمية: إنَّ لي حاجةً في هذه الكنيسة فانتظروني. فدخل الكنيسةَ ثم خرج إليهم كَاسِفًا متغيِّرًا، فرمى بنفسه، فأقاموا عليه حتى سُرِّي عنه، ثم مضوا فقضوا حوائجهم، ثم رجعوا فلما صاروا إلى الكنيسة قال لهم: انتظروني، ودخل الكنيسة فأبطأَ، ثم خرج أسوأ مِنْ حاله الأول.

فقال له أبو سفيان بن حرب: قد شققت على رفقتك.

فقال: خَلُّوني، فإني أرتاد لنفسي وأطلب لِمَعَادي، وإِنَّ هاهنا راهبًا عالمًا أخبرني أنَّه سيكون بعد عيسى ست رجفات، وقد مَضتْ منها خمسٌ وبقيتْ واحدةٌ، فخرجت وأنا أطمع أن أكون نبيًّا وأخاف أن يُخْطِئَني فأصابني ما رأيتَ، فلما رجعتُ أتيته فقال: قد كانت الرَّجفة وقد بُعِثَ نبيّ من العرب فَأَيِسْتُ من النبوة فأصابني ما رأيتَ إذْ فاتني ما كنتُ أطمع فيه .

قال: وقال الزُّهْرِيُّ: خرج أمية في سفر فنزلوا منزلًا، فأمَّ أميةُ وجهًا وصعد في كثيب، فرُفِعَتْ له كنيسة فانتهى إليها؛ فإذا شيخ جالس، فقال لأمية حين رآه: إنَّك لمتبوع فمن أين يأتيكَ رئيُّكَ؟ قال: من شِقِّي الأيسر، قال: فأيُّ الثياب أحب إليه أن تلقاه فيها؟ قال: السواد، قال: كدتَ تكون نبيَّ العرب ولستَ به، هذا خاطِرٌ من الجنِّ وليس بِمَلَكٍ، وإنَّ نبيَّ العرب صاحبُ هذا الأمر يأتيه المَلَكُ من شِقِّه الأيمن، وأَحَبُّ الثياب إليه أن يلقاه فيها: البَيَاضُ.

قال الزهري: وأتى أميةُ أبا بكرِ فقال له: يا أبا بكر عَمِيَ الخَبَرُ، فهل أحسَسْتَ شيئًا؟ قال: لا والله. قال: قد وجدتُه يخرج في هذا العام.

وقال عمر بن شَبَّة: سمعت خالد بن يزيدَ يقول: إنَّ أُمية وأبا سفيان ابن حرب صحباني في تجارة إلى الشام، فذكر نحو الحديث الأول، وزاد فيه: فخرج من عند الرَّاهب وهو ثقيل ، فقال له أبو سفيان: إنَّ بك لَشَرًّا فما قضيتك؟ قال خير، أخبِرْني عن عتبة بن ربيعة كم سِنُّهُ؟ فذكر سِنًّا، قال: أخْبِرْني عن ماله، فذكر مالًا، (فقال له: وَضَعْتَه) ، قال أبو سفيان: بل رفعتُه، فقال: إنَّ صاحب هذا الأمر ليس بشيخٍ ولا ذي مال. قال: وكان الراهب أيأسه، وأخبره أنَّ الأمر لرجلٍ من قريش.

قال الزبير: وحدَّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي، قال: حدّثني رجل من أهل الكوفة، قال: كان أمية نائمًا فجاءه طائران، فوقع أحدهما على باب البيت، ودخل الآخر فشق عن قلبه ثم رده الطائر، فقال له الطائر الآخر: أَوَعى؟ قال: نعم. قال: أزَكا؟ قال: أبَى.

وقال الزهري: دخل يومًا أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهنأ أُدْمًا لها، فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت. قالت: (فانشقَّ جانبٌ من السقف في البيت) وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه، فشقَّ الواقعُ صَدْرَه فأخرج قلبه فشقَّه، فقال الطائر الآخر للذي على صدره: أوعى؟ قال: وَعَى؟ قال: أَقَبِلَ؟ قال: أبى، قال: فردَّ قلبه في موضعه ثم مضى، فأتْبَعَهُما أميةُ طَرْفَهُ وقال: لبَّيْكُما لبيكما ها أنذا لديكما، لا بريء فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر.

فرجع الطائر فوقع على صدره فشقَّه حتى أخرج قلبه فشقَّه، فقال الطائر الأعلى للواقع: أَوَعَى؟ قال: وَعَى، قال: أَقَبِلَ؟ قال: أَبى. ونهض فأتْبَعَهما أميةُ بصرَه فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا مال لي يغنيني، ولا عشيرة تحميني.

فرجع الطائر فوقع على صدره فشقَّه ثم أخرج قلبه فشقَّه، فقال الطائر الأعلى: أوعى؟ قال: وعى، قال: أَقَبِلَ؟ قال: أبى، ونهض فأتبعه أمية بصره، فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، محفوف بالنعم محوط بالذنب.

قال فرجع الطائر فوقع على صدره فشقَّه فأَخْرَجَ قلبه فشقَّه، فقال الأعلى: أَوَعَى؟ قال: وَعَى. قال: أَقَبِلَ؟ قال: أبَى. قال: ونهض فأتبعهما طَرْفَهُ قال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما.

إنْ تَغْفرِ اللهمَّ تغفر جَمَّا … وأيّ عبدٍ لك لا أَلَمَّا

ثم انطبق السقف وجلس أمية يمسح صدره، فقلت: يا أخي! هل تجد شيئا؟ قال: لا، ولكني أجد حرًّا في صدري، ثم أنشأ يقول:

لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي … فِي قلَالِ الجبالِ أرعى الوُعُولًا

اجْعَلِ الموتَ نُصْبَ عَيْنَيْكَ واحْذَرْ … غَولَةَ الدَّهْرِ إنَّ للدَّهْرِ غُولًا

وقال مروان بن الحكم، عن معاوية بن أبي سفيان، (عن أبي سفيان) بن حرب، قال: خرجت أنا وأُميَّة بن أبي الصَّلْت تجارًا إلى الشام، فكان كلَّما نزلنا منزلًا أخرج منه سِفْرًا يقرؤه، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى فرأوه فعرفوه وأهدَوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، ثم رجع في وسط النهار فطرح نفسه، واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما، ثم قال: يا أبا سفيان: هل لك في عالِمٍ من علماء النصارى، إليه تَنَاهى عِلْمُ الكتب تسأله عما بدا لك؟ قلت: لا، فمضى هو وحده وجاءنا بعد هَدْأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح، وأصبح كئيبًا حزينًا ما يكلِّمنا ولا نكلِّمه، فَسَرَيْنَا ليلتين على ما به من الهمِّ. فقلت له: ما رأيتُ مثل الذي رجعتَ به من عند صاحبك! قال: لمنقلبي. قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إي والله لأموتنَّ ولأُحاسبنَّ. قلت: فهل أنت قابل أماني؟ قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تُبْعَثُ ولا تُحاسَب، فضحك وقال: بلى والله لتبعَثُنَّ ولتُحَاسَبُنَّ، ولتدخُلُنَّ: فريقٌ في الجنة وفريق في السعير. قلت: ففي أيِّهما أنتَ أأخبرَكَ صاحبُك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك فيّ ولا في نفسه. فكنا في ذلك ليلتنا يعجب منا ونضحك منه حتى قَدِمْنا غوطة دمشق، فبعْنَا متاعنا وأقمنا شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤوه وأهدَوْا له وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاءنا مع نصف النهار فلبس ثوبيه الأسودين وذهب حتى جاءنا بعد هَدْأة من الليل فطرح ثوبيه ثم رمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح مبثوثًا حزينًا لا يكلِّمنا ولا نكلِّمه، فرحلنا فسِرْنَا لياليَ، ثم قال: يا صخر حدِّثني عن عتبةَ بنِ ربيعةَ: أيجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: إي والله. قال: أَوَ يصل الرَّحِمَ ويأمر بِصِلَتِهَا؟ قلت: نعم. قال: فكريمُ الطَّرَفيْن وسيط في العشيرة؟ قلت: نعم، قال: فهل تعلم قرشيًّا أشرفَ منه؟ قلت: لا والله. قال: أَمُحْوِجٌ هو؟ قلت: لا، بل هو ذو مال كثير. قال: كم أتى له من السنين؟ قلت: هو ابن سبعين أو قد قاربها. قال: فالسنُّ والشَّرَف أزْرَيًا به، قلت: والله بل زاده خيرًا. قال: هو ذاك، ثم إنَّ الذي رأيتَ بي أَنّي جئت هذا العَالِمَ فسألته عن هذا الذي يُنْتَظَرُ، فقال: رجل من العرب من أهل بيتٍ تحجُّه العرب. فقلت: فينا بيت تحجه العرب. قال: هو من إخوانكم وجيرانكم من قريش، فأصابني شيءٌ ما أصابني مثله إذْ خرج من يدي فَوْزُ الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون أنا هو. فقلتُ: فصِفْهُ لي؟ فقال: رجل شاب حين دخل في الكهولة، بَدْءُ أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرَّحِم ويأمر بصلتها، وهو كريم الطرفين ، متوسط في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة. قلت: وما آية ذلك؟ قال: رجفت الشام منذ هلك عيسى بنُ مريم عدَّة رجفات كلُّها فيها مصيبة، وبَقِيَتْ رجفةٌ عامة فيها مصيبة، يخرج على أثرها. فقلت: هذا هو الباطل، لئن بعث الله رسولًا لا يأخذه إلا مُسِنًّا شريفًا، قال أمية: والذي يُحْلَفُ به إنه لهكذا.

فخرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكةَ ليلتان أدْرَكَنَا راكبٌ مِنْ خَلْفِنا فإذا هو يقول: أصابت الشام (من بعدكم) رجفة دثر أهلها فيها أصابتهم مصائب عظيمة. فقال أمية: كيف ترى يا أبا سفيان؟ فقلت: والله ما أظنُّ صاحبك إلا صادقًا، وقَدِمْنَا مكةَ، ثم انطلقت حتى أتيتُ أرضَ الحبشة تاجرًا ومكثت فيها خمسة أشهر، ثم قدمت مكةَ فجاءني الناس يسلِّمون عليَّ، وفي آخرهم محمدٌ، وهندٌ تلاعب صبيانها، فسلم عليَّ ورحَّب بي، وسألني عن سفري ومقدمي، ثم انطلق. فقلت: والله إنَّ هذا الفتى لعجب ما جاءني من قريش أحدٌ له معي بضاعة إلا سألني عنها وما بلَغَتْ، والله إن له معي لبضاعةً ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني عنها. فقالت: أَوَ ما علمتَ بشأنه؟ فقلت -وفزعت-: وما شأنه؟ قالت: يزعمُ أنه رسول الله. فذكرتُ قَوْلَ النَّصراني فَوَجَمْتُ. ثم قَدِمْتُ الطائف فنزلت على أميَّةَ، فقلت: هل تذكر حديث النَّصراني؟ قال: نعم. فقلت: قد كان. قال: ومَنْ؟ قلت: محمد بن عبد الله، فتصبَّب عَرَقًا. فقلت: قد كان من أمر الرجل ما كان فاين أنت منه؟ فقال: والله لا أو من بنبيٍّ من غير ثقيف أبدًا.

فهذا حديث أبي سفيان عن أميَّة، وذلك حديثه عن هِرَقْل وهو في "صحيح البخاري" ، وكلاهما من أعلام النُّبُوة المأخوذة عن علماء أهل الكتاب.

وذكر التِّرمِذِيُّ وغيره من حديث عبدِ الرَّحمنِ بن غَزْوَانَ -وهو ثقة-: أخْبَرَنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال: خرج أَبو طالب إلى الشام وخرج معه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب حَطُّوا عن رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرُّون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلُّون رحالهم فجعل يتخلَّلُهم الراهب حتى إذا جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسولُ ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين.

فقال له أشياخ من قريش: ما عِلْمُك؟

فقال: إنكم حين أشرفتم من العَقَبَةِ لم يَبْقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدون إلا لنبيٍّ، وإني أعرفه بخَاتَمِ النبوة أسْفَلَ من غضروف كَتِفَيْه مثل التفاحة.

ثم رجع فصنع لهم طعامًا فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل- قال: أرْسِلوا إليه. فأقبلَ وعليه غَمَامَةٌ تُظِلُّه ، فلما دَنَا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلمَّا جلس مَالَ فَيْءُ الشجرة عليه.

فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينا هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم؛ فإنَّ الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، وإذا بسبعةٍ قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، وقال: ما جاء بكم؟ قالوا: بلَغَنَا أن هذا النبيَّ خارج في هذا الشهر فلم يَبْقَ طريق إلا بُعِثَ إليه بأناس، وإنا قد أُخْبِرنا خَبَرَه، فَبُعِثْنَا إلى طريقك هذا. فقال هل خلفكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنا قد أُخْبِرْنا خَبَرَه بطريقِكَ هذا. قال: أفرأيتم أمرًا أراد اللهُ أنْ يَقْضِيَهُ فهل يستطِيعُ أحدٌ من الناس ردَّه؟ قالوا: لا، قال: فَبَايَعُوه وأقاموا معه. قال: أنْشُدُكم باللهِ أيُّكم وليُّه؟ قالوا: أَبو طالب، فلم يزل يناشده حتى ردَّه .

وقد روى محمَّدُ بنُ سعدٍ هذه القصة مطوَّلة. قال ابن سعد: حدَّثَنَا محمد بن عُمرَ بنِ واقد، حدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر الزُّبَيْرِيّ، قال محمد بن عمر: وحدّثَنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، قال: لما خرج أَبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله في - صلى الله عليه وسلم - المرة الأولى -وهو ابن ثنتي عشرة سنة-.

فلما نزل الركب بُصْرَى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بَحِيْرًا في صومعة له، وكان علماء النَّصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا على بَحِيْرًا، وكانوا كثيرًا ما يمرون به ولا يكلِّمهم، حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلًا قريبًا من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك (كلَّما مَرُّوا) ، فصنع لهمِ طعامًا ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمَامَة تُظِلُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ دونهم حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلَّت تلك الشجرة فأخضلت أغصان الشجرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استظلَّ تحتها، فلما رأى بحيرًا ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فأُتي به وأرْسَل إليهم، وقال: إني قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأنا أُحبُّ أن تحضروه كلُّكم، ولا تُخَلِّفوا أحدًا منكم، كبيرًا ولا صغيرًا، حرًّا ولا عبدًا، فإن هذا شيء تكرموني به. فقال رجل: إنَّ لك لشأنًا يا بحيرا ما كُنْتَ تصنعُ هذا فما شأنك اليوم؟ قال: إني أُحبُّ أن أُكْرمَكم ولكم حقٌّ.

(فاجتمع القوم) إليه وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم لحداثة سنِّه في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرَا إلى القوم فلم يَرَ الصفةَ التي يعرفها ويجدها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغَمَامَة على أحد من القوم، ويراها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بحيرا: يا معشر قريش لا يَتَخَلَّفنَّ منكم أحد عن طعامي؟ قالوا: ما تخلَّف أحدٌ إلا غلام هو أحدث القوم سِنًّا في رحالهم، فقال: ادعوه ليحضر طعامي، فما أقْبَحَ أن تحضروا ويتخلَّفَ رجلٌ واحد مع أني أراه من أَنْفَسِكُم! فقال القوم: هو والله أوسَطُنا نسبًا، وهو ابن أخي هذا الرجل -يعنون أبا طالب- وهو من ولد عبد المطَّلِب، فقال الحارث بن عبد المطَّلب: والله إن كان بنا لَلُؤْمٌ أن يتخلَّف ابنُ عبد المطَّلِب من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغَمَامة تسير على رأسه، وجعل بَحِيْرًا يلحظُه لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياءَ في جسدِه قد كان يجدها عنده في صفته.

فلما تفرَّقوا عن الطعام قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللَّات والعُزَّى إلا ما أخْبَرْتَنِي عمَّا أسألك؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسألني باللَّات والعُزى، فواللهِ ما أبغضتُ شيئًا بعضَهُما" قال: فبالله إلا أخبرتني عمَّا أسألك عنه، قال: "سَلْنِي عما بَدَا لك". فجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خَاتَمَ النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده، فقبَّل موضع الخاتم.

وقالت قريش: إنَّ لمحمدٍ عند هذا الرَّاهب لقَدْرًا. وجعل أبو طالب -لما يرى من الراهب- يخاف على ابن أخيه. فقال الرَّاهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: هو ابني. قال: ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أَبوه حيًّا، قال: فابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: هَلَكَ وأمُّه حُبْلى به. قال: فما فعلتْ أمُّه؟ قال: تُوُفِّيَتْ قريبًا، قال: صدقتَ، ارجعْ بابن أخيك إلى بلده، واحْذَرْ عليه اليهودَ، فوالله لئن عَرَفُوا منه ما أعرَف ليَبْغُنَّه عَنَتًا، فإنه كائنٌ لابن أخيك هذا شأنٌ عظيم نجده في كتابنا، واعلمْ أنِّي قد أدَّيتُ إليك النصيحةَ.

فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعًا، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى بَحِيْرًا فذكروا له أمره. فنهاهم أشدَّ النهي، وقال لهم: أتجِدُونَ صفته؟ قالوا: نعم. قال: فما لكم إليه سبيل. فصدَّقوه وتركوه، ورجع أبو طالب فما خرج به سفرًا بعد ذلك خوفًا عليه .

وذكر الحَاكِمُ والبَيْهَقِيُّ وغيرهما من حديث عبد الله بن إدريس، عن شُرَحْبيْل بن مسلم، عن أبي أُمامةَ، عن هشام بن العاص، قال: ذهبت أنا ورجل آخر من قريش إلى هِرَقْل -صاحب الروم- ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا غوطةَ دِمَشْقَ، فنزلنا على جَبَلَةَ بنِ الأَيْهَم الغَسَّاني، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسول نكلِّمه، فقلنا: لا والله لا نكلِّم رسولًا، إنا بُعِثنا إلى الملك، فإن أذِنَ لنا كلَّمناه وإلا لم نكلِّم الرسول، فرجع إليه الرسولُ فأخبره بذلك، قال: فأذِنَ لنا، فقال: تكلَّمُوا، فكلَّمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام، وإذا عليه ثياب سوداء ، فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستُها وحلفتُ أن لا أنزعها حتى أُخْرِجَكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا فواللهِ لنأخذنَّه منك، ولنأخذنَّ مُلكَ المَلِك الأعظم، أخْبَرَنا بذلك نبيُّنا. فقال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويفطرون بالليل، فكيف صومُكم؟ فأخْبَرْنَاه، فَمُلِئ وجهه سوادًا، فقال: قوموا.

وبعث معنا رسولًا إلى الملك، فخرجْنَا حتى إذا كنا قريبًا من المدينة قال لنا الذي معنا: إنَّ دوابَّكم هذه لا تدخل مدينة المَلِك، فإن شئتم حملناكم على بَرَاذِيْنَ وبِغَالٍ، قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسَلُوا إلى الملك أنهم يأْبَوْنَ . فدخلنا على رواحلنا متقلِّدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفةٍ له، فأَنَخنَا في أصلها، وهو ينظر إلينا، فقلنا: "لا إله إلا الله، والله أكبر". والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى (صارت كأنها) عِذْقٌ تَصْفِقُه الرياح، فأرسل إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم.

وأرسل إلينا أنِ ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراشٍ له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة. فدنونا منه فضحك، وقال: ما كان عليكم لو حَيَّيْتُموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا رجل فصيح بالعربية كثير الكلام. فقلنا: إنَّ تحيتنا فيما بيننا لا تحلُّ لك، وتحيتك التي تُحَيَّا بها لا يحلُّ لنا أن نحيِّيك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ فقلنا: السلام عليكم. قال: كيف تحيُّون مَلِكَكم؟ قلنا: بها. قال: كيف يردُّ عليكم؟ قلنا: بها، قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: "لا إله إلا الله والله أكبر" فلما تكلمنا بها -والله يعلم- لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها. قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضتِ الغرفةُ، كلَّما قلتموها في بيوتكم تنتفض عليكم بيوتكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك.

قال: وددت أنكم كلَّما قلتموها ينتفض كل شيء عليكم وإني خرجت من نصف ملكي. قلنا: لِمَ؟ قال: لأنه يكون أيْسَرَ لشأنها وأجدر أن لا تكونَ من أمر النبوة، وأن تكون من حِيَل النَّاس.

ثم سَأَلنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخْبَرْنَاه، فقال: قوموا، فقمنا، فأمر لنا بمنزلٍ حسن ونُزُلٍ كثير) ، فأقمنا ثلاثًا.

فأرسل إلينا ليلًا، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا فأَعَدْناه، ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهَّبة، فيها بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح بيتًا وقُفْلًا واستخرج منه حريرة سوداء فنشرها، فماذا فيها صورةٌ حمراءُ، وإذا فيها رجلٌ ضخم العينين، عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذاله ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شَعْرًا.

ثم فتح بابًا آخر واستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورةٌ بيضاءُ، وإذا له شعر قَطَطٌ، أحمر العينين، ضخم الهامة حَسَنُ اللحية ، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرةً سوداء، وإذا فيها صورة رجل شديد البياض، حَسَنُ العينين، صَلْتُ الجبين، طويل الخدِّ أبيض اللحية كأنه يبتسم. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة فإذا صورةٌ بيضاء، وإذا -والله- رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله وبَكَيْنًا. قال: والله يعلم أنه قام قائمًا، ثم جلس فقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنَّه لَهُوَ، كأنما ننظر إليه، فأمْسَك ساعةً ينظر إليها ثم قال: أَمَّا إنَّه كان آخر البيوت ولكن عجَّلْتُه لكم لأنظر ما عندكم.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرةً سوداء، فإذا فيها صورةٌ أدْمَاء سمحاء ، وإذا رجل جَعْدٌ قَطَط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مُقَلِّص الشفة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى بن عمران. وإلى جنبه صورةٌ تشبهه إلا أنه مُدْهَانُ الرأس عريض الجبين في عينيه قبلة ، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فإذا (فيها صورة) رجل آدم سَبْط ربعة كأنّه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط.

(ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمْرةً، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسحاق.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل تشبه إسحاق إلا أنه على شفته السفلى خَال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة رجل) أبيض حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور ، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحُمْرة فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيِّكم.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة كأنها صورة آدم، كأنَّ وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين، أخفش العينين، ضخم البطن ربعة متقلد سيفًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكبًا فرسًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود.

ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا رجل شابٌّ شديد سواد اللحية، ليِّن الشعر، حسن الوجه، حسن العينين، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى.

قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها (على ما) صُوِّرتْ عليه الأنبياء؛ لأنا رأينا صورة نبينا مثله؟ قال: إن آدم سأل ربَّه أن يُرِيَه الأنبياءَ من ولده، فأنزل عليه صورهم، وكانوا في خزانة آدم عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين فصارت إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من مُلْكي وأني كنت عبدًا لأشرّكم ملكةً حتى أموت. ثم أجازنا وأحسن جائزتنا، وسرَّحَنَا.

فلما أتينا أبا بكر الصدِّيق فأخبرناه بما رأينا وما قال لنا وما أجازنا، فبكى أبو بكر، وقال: لو أراد الله به خيرًا لفعل.


هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى - ط عطاءات العلم (1/ 221 - 237)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله